إبطال تعلق النفس بالبدن سهل بطريق سهل الاحترام، وكما أن السراج ينطفيء بانتهاء الدهن، فكذلك النفس تفارق عند انتهاء الرطوبة الغريزية بحدوث الحمى وغيرها، والإنسان يعيش في مكان لا ينفطئ فيه النار، لذلك إذا أراد أصحاب المعادن والخبايا دخول فتق أو مغارة أخذوا شعلة على رأس خشبة طويلة وقدموها، فإن بقيت الشعلة دخلوها، وإن انطفأت لم يتعرضوا لها وتركوها. والمصباح عند ذهاب دهنه وانطفائه ينتعش مرتين أو ثلاث انتعاشا ساطعا ثم يخمد، كما أن الإنسان قبيل موته يزيد قوة وتسمى راحة الموت، ولم يكن بعد ذلك لبث، والله الموفق للصواب.
(النظر الثاني: في كرة الهواء) الهواء جرم بسيط طباعه أن يكون حارا رطبا (١) شفافا متحركا إلى المكان الذي تحت كرة النار وفوق الماء. زعموا أن الأجرام الواقعة ما بين سطح الماء وسطح فلك القمر ثلاثة أقسام: أولها: ما يلي القمر، وآخرها ما يلي سطح الماء والأرض، وأوسطها الهواء الواقع بينهما. أما الهواء المماس لفلك القمر فلدوام دورانه مع الفلك وسرعة حركته صار نارا في غاية الحرارة ويسمى الأثير، وقد مر ذكرها، وكلما كان منهبطا إلى أسفل كان أبطأ حركة وأقل حرارة، وكلما قلت الحرارة غلبت البرودة إلى أن تصير في غاية البرد ويسمى الزمهرير.
وأما القسم الثالث: فإنه بواسطة مطارح شعاعات الشمس وغيرها من الكواكب على سطح الأرض وانعكاسها صار معتدلا، ولولا ذلك لكان الهواء المماس لسطح الأرض أشد بردا مما سواه، كما يعرض ذلك للموضع الذي تحت القطب الشمالي؛ لبعد الشمس عنه فيبرد فيه الهواء
(١) فكر في هذا الهواء الحار والرطب وكيف يتعاوران العالم ويتصرفان هذا التصرف في الزيادة والنقصان والاعتدال بإقامة رسوم هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما فيها من المصالح، ثم هما بعد دباغ الأبدان عليهما بقاؤها وفيها صلاحها فإنه لولا الحر والبرد وتداولهما الأبدان لفسدت الأبدان وانتكست قواها وانتقضت في أسرع مدة، ثم فكر في دخول أحدهما في الآخر وهذا التدريج والترسل فإنك تجد أحدهما ينتقص شيئا بعد شيء، والآخر يتزايد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان ولو كان دخول أحدهما في الآخر مفاجأة؛ لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها، كما أن امرءا لو خرج من حمام حار إلى موضع مفرط البرد لضره ذلك ولسقم بدنه، فلم يكن هذا الترسل في دخول الحر والبرد إلا للسلامة من ضرر المفاجأة، ولم يجري ذلك الأمر على ما فيه السلامة من ضرر المفاجأة، لولا تدبير المدبر في ذلك لولا الحر لما كانت هذه الثمار الجاثية المرة تنضج فتلين وتعذب حتى يتفكه بها رطبة يابسة، ولولا البرد لما كان الزرع يفرخ ويريع الريع الكثير الذي يتسع للفوت، وما يبرد في الأرض، أفلا ترى ما في الحر والبرد من عظيم المنفعة فاعتبر بهذا، فإنه تبدير الحكيم العليم، انظر الدلائل والاعتبار بتصرف (١٢).