[أسباب ومزايا اختيار الحبشة دون غيرها للهجرة إليها]
لماذا اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبشة بالذات ليهاجر إليها المسلمون؟ لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فكر كثيراً في المكان الذي يمكن أن يرسل إليه المسلمين، ولعل أقرب الأماكن إلى الذهن هو أن يرسلهم إلى مكان في الجزيرة العربية عند قبيلة من القبائل، فقد كانت هناك تجمعات قبلية كبيرة وكثيفة وكثيرة في جزيرة العرب، هناك ثقيف في الطائف، وهوازن في حنين، وبنو حنيفة في شرق الجزيرة، وعبس وذبيان في شمال المدينة وغيرها كثير، وهذه القبائل تتميز بكونها تعيش في ظروف مقاربة جداً لظروف المسلمين في مكة، ولن يشعر المسلمون بتغير كبير في طبيعة الحياة، كما أنهم يتكلمون العربية، بالإضافة إلى قرب المسافة، فإذا احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين قدموا سريعاً، هذه كلها مزايا موجودة في هذه القبائل، لكن هذه القبائل كانت كلها مشركة، وإن لم تعلن العداء السافر للمسلمين، إلا أنها كلها تكنُّ قدراً عظيماً جداً من الاحترام لقريش، ولاشك أن القرشيين لو طلبوا المسلمين ما ترددت هذه القبائل في دفعهم للكفار من أهل مكة.
إذاً: اختيار القبائل المحيطة بمكة في جزيرة العرب لم يكن اختياراً سليماً، ولعله صلى الله عليه وسلم أيضاً فكر في يثرب التي أصبحت بعد ذلك المدينة المنورة، لكن يثرب في هذه الآونة لم يكن فيها مسلم واحد، كما أنها بلد متقلب بسبب الحروب بين الأوس والخزرج، كما أن اليهود يسكنون منذ زمن في هذه البلاد، وتاريخ اليهود لا يبشر بأي خير.
ولعله صلى الله عليه وسلم قد فكر في العراق حيث القبائل العربية الكثيرة التي تعيش في هذه المناطق، مثل: بني شيبان، ولكن هذه القبائل بالإضافة إلى كونها جميعاً مشركة فإنها على ولاء شديد وتحالف مع الفرس، وعادة ما يكره الملوك الدعوات الإصلاحية، فلن يرحب كسرى فارس بهذا القدوم للمسلمين.
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً قد فكر في الشام أيضاً فهناك قبائل عربية تعيش فيها، مثل: قبائل الغساسنة، لكنها على الجانب الآخر موالية للروم، ولن ترحب أيضاً باستقبال هذه الدعوة الجديدة، ولعله أيضاً قد فكر في مصر، لكن مصر برغم أن بها ملكاً معتدلاً وهو المقوقس إلا أنها محتلة من الرومان، ولا تملك في ذلك الوقت من أمرها شيئاً.
ولعله أيضاً صلى الله عليه وسلم قد فكر في اليمن، لكنها كانت محتلة من قبل فارس، ولن يقبل الفرس بقدوم المسلمين، لاشك أنه صلى الله عليه وسلم فكر في كل هذه الأماكن؛ لأنها قريبة ومنطقية وغالبها عربي باستثناء مصر، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يجدها مناسبة؛ لذا جال وبرز في ذهنه صلى الله عليه وسلم الاختيار الأخير، والذي يبدو عجيباً في نظر الكثيرين حتى في نظر المعاصرين له صلى الله عليه وسلم، وهذا الاختيار هو الحبشة.
لقد كان اختيار الحبشة عجيباً، وإن دل على شيء فإنما يدل على سعة اطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى حكمته في نفس الوقت، والحبشة وإن كان بها بعض العيوب الملموسة إلا أن مزايا الاختيار تفوق عيوبها.
من عيوب الحبشة: أنها بعيدة عن مكة، وهذا يصعب الاتصال والمراسلات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مجموعة المهاجرين.
أيضاً: اختلاف اللغة، فهي مختلفة بالكلية عن اللغة العربية.
كما أن العادات والطبائع لأهل الحبشة مختلفة كثيراً عن عادات العرب، مما قد يؤدي إلى الصعوبة النسبية في الحياة هناك، لكن لها مزايا.
الميزة الأولى: كان الحاكم في الحبشة عادلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد)، لم يعلق الرسول صلى الله عليه وسلم على شيء في حياة الرجل ولا دينه، ولكن علق على عدله، ما حدث للمسلمين في مكة كان نتيجة ظلم بين من أهل مكة، لكن ملك الحبشة النجاشي رحمه الله كان عادلاً، وهو بذلك يحفظ حقوق الآخرين بغض النظر عن ديانتهم أو حبهم أو كراهيتهم، فالعدل أساس من أسس الحكم، وبغيره لا تستقيم الدنيا والآخرة.
فكان من سعة الأفق للرسول صلى الله عليه وسلم وشمول النظرة وعمق الفكر أن اختار البلد الذي يحكمه حاكم عادل، فضمن بذلك حماية لأصحابه، وهو درس للدعاة أن يستفيدوا من الذين يتصفون بالعدل من الناس، وأن يطلعوا على أحوال البلاد المحيطة بهم، حتى زمن الاستضعاف، فقد يكون من الفائدة أن يستعينوا برجل من أمثال هؤلاء وإن اختلف دينه عن دينهم.
هذه كانت الميزة الرئيسية في أرض الحبشة.
الميزة الثانية: يعيش في أرض الحبشة نصارى، والمسلمون كانوا يشعرون بقرب إلى النصارى، فهم أهل كتاب أيضاً، وظهر ذلك واضحاً من تعاطف المسلمين مع الروم في حربهم ضد فارس الوثنية، وشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أن قلوب النصارى ستكون أقرب إلى الدعوة من غيرهم، وقد نزل القرآن بعد ذلك بسنوات عديدة ليؤكد على هذا المعنى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّ