للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المحافظة على نقاء الرسالة ووحدة المصدر]

أول حكمة تتبدى في ذلك الأمر: أن هذه المنطقة ليس لها تاريخ ثقافي يذكر، ولا فلسفات سابقة، أو تشريعات مركبة، أو قوانين مفصلة، بل حياة بسيطة إلى أبعد درجات البساطة، الحضارات المعاصرة لها كانت لها أفكار مرتبة وفلسفات خاصة وتاريخ طويل، فالدولة الرومانية الغربية والشرقية كانت فيها قوانين كثيرة، وتشريعات في معظم المجالات، وكان بها ظلم وقهر وبطش.

فاليونان كانت جزءاً من الدولة الرومانية الشرقية، وكانت فيها فلسفات كثيرة قوية، وظهر فيها فلاسفة كبار، أمثال: أرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم.

والدولة الفارسية ظهر فيها مزدك صاحب الشيوعية وزواج المحارم، وظهر فيها زرادشت صاحب النار.

والهند كان فيها حكماء كثيرون جداً كما يقال.

والصين ظهر فيها بوذا وكونفوشيوس ولاوتسو.

ومصر كان فيها الفراعنة وتاريخهم طويل وقديم وقوي، وعندهم أيضاً قوانين وتشريعات وأحكام، ومع كل هذا نزلت الرسالة في مكان يعتبر تقريباً بلا تاريخ ثقافي، اللهم الشعر، لكن حتى الشعر لم يكن له دور فعال في بناء الأمة الإسلامية، ولم يكن ذا أهمية خاصة في إنشاء الأمة الإسلامية على الأقل في البداية، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف نظم الشعر على بلاغته وفصاحته صلى الله عليه وسلم، وقد كان أبلغ البشر أجمعين، ومع ذلك لم يكن يقول الشعر، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:٦٩] يعني: لا يصح أن يقول شعراً، وما ينبغي له ذلك؛ لئلا يختلط على الناس الأمر، ويعتقد الناس أن القرآن نوع جديد من الشعر ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل أراد ألا يختلط القرآن بأي شيء من كلام البشر، حتى لو كان من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كل هذا من أجل نقاء الرسالة، وحتى لا تختلط بأفكار سابقة، ثم يقال: إن الإسلام مجرد تطور للمعتقدات السابقة.

فـ كونفوشيوس أو بوذا أو سقراط أو غيرهم من الفلاسفة لهم معتقدات معينة، وقواعد خاصة وضعوها منذ مئات السنين، بعضها قد يحض على معنى معين حض عليه الإسلام أيضاً، ولكن سيكون بشيء من الاختلاف أو التغيير، فقد يحض بعضهم مثلاً على الصدق، أو الزهد في الدنيا، أو الأمانة، فإذا جاءت هذه الأفكار في الإسلام قد يعتقد البعض أنها مجرد تطور لأفكار سقراط أو بوذا أو غيرهما، وهذا ما قاله بعض المتطاولين على الإسلام، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً عن هؤلاء الفلاسفة، وما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم، فما بالكم لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم نشأ في بيئة مليئة بالفلاسفة وبالثقافات القديمة، ماذا سيقال عنه؟ ثم أيضاً قد تتسرب بعض هذه الأفكار إلى الإسلام دون دراية المسلمين بذلك، فقليلاً قليلاً يختلط الصواب بالخطأ، ويختلط الحق بالباطل، فإن قواعد الجاهلية التي كانت مترسخة في الناس أخذت مجهوداً ضخماً من الإسلام؛ لكي يلغيها من أذهان الناس، فمثلاً: عادة التبني، لكي يلغيها الإسلام حصلت القصة المشهورة من طلاق زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه للسيدة زينب بنت جحش، ثم زواج الرسول صلى الله عليه وسلم منها.

كل هذا أحدث هزة كبيرة جداً في المجتمع المسلم، والناس كلها تنتبه إلى أن هذه العادة ليست من الإسلام.

وتخيل لو أن هذا البلد مليء بتشريعات وقوانين وفلسفات، كيف سيصبح الوضع؟ فربنا سبحانه وتعالى يريد للرسالة أن تكون نقية تماماً، ليس فيها أي خلط بأي أفكار أخرى، وربما من أجل هذا أيضاً ما نزلت الرسالة في فلسطين، فلو نزلت فيها الرسالة فستبقى مجرد امتداد لليهودية أو النصرانية، نعم، أصول التوحيد واحدة، لكن الإسلام أتى بتشريع كامل متكامل يحكم الدنيا والدين.

إن الله سبحانه وتعالى أراد للرسالة الخاتمة أن تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حتى لا يدعي بعض المدعين على الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أخذ التوراة والإنجيل وحرف فيهما قليلاً، واستخرج منهما الإسلام، ادعى أهل مكة أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتلقى هذه الآيات من غلام نصراني، فكيف لو نزلت الرسالة في بلد مملوء بأهل التوراة والإنجيل مثل فلسطين؟ لذلك نزلت هذه الرسالة في مكان ليست فيه بالفعل أي نوع من الثقافات السابقة أو القوانين أو التشريعات، كل هذا من أجل أن يبقى الدين في النهاية نقياً خالصاً: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:٣].

ونحن رأينا بأعيننا بعد ذلك آثار اختلاط الإسلام بالأفكار الغريبة عنه، ومدى الخطورة على الإسلام لو أدخلنا عليه أي أفكار، حتى ولو كانت من أفكار الفلاسفة وكبار الحكماء كما يقولون.

مثال ذلك: دخول المناهج الفلسفية اليونانية إلى الإسلام، عندما ترجمت