[التضييق الاقتصادي من قريش على المدينة المنورة وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك]
رأينا التعامل مع بعض الرموز المشركة في داخل المدينة المنورة، ورأينا الحرب النفسية على المسلمين والتهديد والوعيد، ورأينا قطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة، وذلك لما قطع أبو جهل علاقاته مع سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، رأينا تغيير القوانين والتنكر للأعراف ونكث العهود، ومنع المسلمين من الوصول إلى مكة ظلماً وقهراً، هل اكتفت قريش بهذا كله؟ لا، لم تكتف بذلك، بل بدأت في تنفيذ خطوة أخرى، وهي عملية التضييق الاقتصادي على المدينة المنورة، وذلك بالتأثير على القبائل التي حول المدينة والمنورة، وبالاتصال أيضاً باليهود الذين يعيشون في داخل المدينة المنورة؛ لمنعهم من التعامل مع المسلمين.
استغلت قريش ما لها من نفوذ وعلاقات بالقبائل المختلفة؛ لتحاصر المسلمين وتضيق عليهم، لكن هذه الوسيلة مع خطورتها لم يكن لها التأثير الكافي على الدولة الإسلامية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم نزل فيه المدينة المنورة قد عمل في حسابه أنه سيقابل مثل هذه المعضلة، وهي معضلة الحصار الاقتصادي من قريش للمدينة المنورة؛ لذلك خطط النبي صلى الله عليه وسلم تخطيطاً في غاية الإبهار للخروج من الأزمة الاقتصادية، أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم من اللحظة الأولى التي بدأ يخطط فيها لبناء الأمة الإسلامية أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبنى إلا على أكتاف أبنائها، والاقتصاد المسلم إذا كان معتمداً على الآخرين فإنه سيصبح اقتصاداً هشاً ضعيفاً لا قيمة له، فما بالكم لو كان يعتمد على عدو أو يعتمد على يهود؟ والموقف عند هجرة المسلمين للمدينة المنورة كان صعباً جداً، والمدينة لم تكن فقيرة فقط، بل إن اقتصادها إلى درجة كبيرة جداً كان في يد اليهود، فسوق المدينة الرئيس هو سوق بني قينقاع، ولعله السوق الوحيد في المدينة، والتجارة في معظمها تتم في داخل هذا السوق، حتى إن كبار التجار من الأنصار كانوا لا يتعاملون إلا في داخل هذا السوق، والأخطر من التجارة والسوق والمال هو الماء، والماء كان أيضاً في يد اليهود، وكان أهل المدينة يشترون الماء من الأبيار التي يمتلكها اليهود، وأشهر هذه الأبيار بئر رومة المشهور.
فماذا لو حدث اتفاق بين قريش واليهود؟ وماذا لو منع اليهود تجارتهم عن المسلمين ومنعوا ماءهم عن المسلمين؟ لا شك أن هذا موقف لا يحسد عليه أحد؛ لذلك خطط الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم للخروج من هذه الأزمة بمنتهى المهارة والدقة، سطر لنا أصولاً أصبحت من الثوابت في التشريع الإسلامي.
والتفصيل لهذه الوسائل يحتاج إلى وقت طويل إن شاء الله في محاضرتين خاصتين: الأولى: الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج من الأزمة الاقتصادية، والثانية: الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاج مشكلة الفقر.
لكن الآن سنوجز بعض العناوين المهمة في الخروج من الأزمة الاقتصادية.
أولاً: حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على توفير الماء المملوك للدولة الإسلامية، فالماء سلعة إستراتيجية، ولن تقوم دولة بلا ماء؛ لذلك روى أحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، كان بئر رومة ملكاً ليهود، فابتاعها عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! ابتعتها بكذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك، فقال: اللهم نعم).
إن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه اقتصادي إسلامي كبير، وجه جهده كله لشراء ما ينفع الأمة ويفيدها بدلاً من التجارة في شيء من الرفاهيات أو الكماليات، وهذا كان بتوجيه من الرسول عليه الصلاة والسلام، يوجهه لشراء السلع الإستراتيجية، ومن هذه السلع الإستراتيجية الماء، وقد تكون هذه السلعة شيئاً آخر، قد تكون بترولاً أو قمحاً أو قطناً أو طاقةً نووية حسب الظروف.
هناك أمر في غاية الأهمية وهو أهمية التربية الإيمانية في بناء الأمة الإسلامية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً دنيوياً يعوض به عثمان بن عفان عن الماء الذي اشتراه، ولا يتوقع أن يشتري المسلمون منه ذلك الماء لأنهم فقراء؛ لذلك فإنه حفزه بما في الآخرة، قال له: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، وفي رواية: (وله الجنة) ولو لم يكن إيمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يقينياً في الله عز وجل وفي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وفي الجنة والنار لما هان عليه أن يدفع آلاف الدراهم دون عائد دنيوي، ولم يكن لهذه المشكلة أبداً أن تحل دون تطوع من اقتصادي مسلم غني يرغب في ثواب الآخرة؛ لأن بيت مال المسلمين لم يكن فيه مال.
لذلك كخطوة أولى قبل بناء الدولة لا بد من الاطمئنان على إيمان وعقيدة الجنود، الذين ستبنى على أكتافهم هذه الدولة، وبهذه الخطوة الجب