الأزمة الثالثة: كانت أزمة تعرف في التاريخ ببعث ماء الرجيع، كانت في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة يعني: بعد أحد بأربعة شهور، جاءت قبيلة عضل وقبيلة قارة، وهما قبيلتان من القبائل العربية، وذكرا أن فيهما إسلاماً، يعني: هناك بوادر إسلام، لكنهما لا يعرفان شيئاً عنه، فطلبا بعثاً من الصحابة يذهب إليهما ليعلمهما الإسلام والقرآن.
واختار الرسول عليه الصلاة والسلام عشرة من الصحابة، وأمر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، وذهبت هذه المجموعة لتعليم هؤلاء الإسلام، وفي الطريق غدرت بهم قبيلتا عضل وقارة، واستصرخا عليهم حياً من هذيل، فهذيل ما زالت متوترة لقتل قائدهم خالد بن سفيان الهذلي، فلما حصل هذا الاستنفار تجمعوا حول هؤلاء العشرة، وطلبوا منهم النزول على العهد والميثاق، وقالوا: إذا نزلتم على العهد والميثاق لا نقتل منكم أحداً، فرفض عاصم بن ثابت رضي الله عنه، وقال: لا أنزل على عهد مشرك، وقاتل في أصحابه هذا القتال أسفر عن قتل سبعة من المسلمين، وبقي ثلاثة منهم فنزلوا على العهد، هؤلاء الثلاثة: هم خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة وواحد ثالث لم يعرف الرواة اسمه، فلما أمسكوا بالثلاثة أخذوا يكتفونهم، فقال الثالث: هذا أول الغدر.
فبدأ يقاوم فقتلوه، وبقي الاثنان، ولما وصلوا بهما إلى بلادهم باعوهما لأهل مكة، فاشترى صفوان بن أمية زيد بن الدثنة وقتله بأبيه أمية بن خلف الذي قتل في بدر، وأما خبيب بن عدي فقد اشترته مكة وأخذوا جميعاً يتجمعون لقتله، وخرجوا به إلى التنعيم حتى لا يقتلوه في البلد الحرام، وأجمعوا على صلبه ليقتل، فقال رضي الله عنه وأرضاه: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين خفيفتين، ولما سلم قال: والله لولا أن تقولوا: إن ما بي جزع لزدت في الركعتين، ثم رفع يده وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم بدأ ينشد مجموعة من الأبيات قال: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي شق كان في الله مصرعي أي: في أي مكان، وبأي طريقة، مادام في سبيل الله فهذه أمنيتي، ثم قال له أبو سفيان قبل أن يقتل: أيسرك أن محمداً عندنا نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: لا والله ما يسرني أني في أهلي، وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكه تؤذيه، سبحان الله! كان الصحابة جميعاً يفتدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرواحهم، وكان هذا الكلام يخرج من قلبه رضي الله عنه وأرضاه، ثم قدم للقتل فقتل صابراً محتسباً مقبلاً رضي الله عنه وأرضاه ولم يقر بكلمة واحدة من الذي يريدون.
أما قائد هذه المجموعة عاصم بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه كانت هناك امرأة من بني عبد الدار اسمها سلافة بنت سعد أقسمت أنها إن أمسكت بـ عاصم بن ثابت لتشربن الخمر في قحف رأسه؛ لأنه اشترك في قتل بعض من بنيها، هذا المرأة مات زوجها وأربعة من أولادها في موقعة أحد، وهم من بني عبد الدار، وسمع مجموعة من بني لحيان بمقتل عاصم بن ثابت، فذهبوا بسرعة ليأخذوه ويذهبوا به إلى سلافة بنت سعد فلما ذهبوا إليه وجدوا مجموعة كبيرة من الدبر - ذكور النحل- تغطي عاصم بن ثابت رضي الله عنه، فما استطاعوا أن يقتربوا منه، فابتعدوا عنه وبالليل جاءوا ليأخذوه، فوجدوا أن سيلاً من السيول -يقول الراوي: وليس في السماء سحابة واحدة- قد احتمل عاصم بن ثابت إلى حيث لا يعلمون واختفت الجثة؛ وذلك لأن عاصماً رضي الله عنه كان في حياته بعد أن أسلم يقسم أنه لا يمس مشركاً، وفي قتاله يوم الرجيع قال: اللهم إني قد حميت دينك أول النهار، فاحم لحمي في آخره.
فحمى الله لحمه وهو ميت.
ولما كانت هذه القصة تحكى أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يحفظ الله عز وجل العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته.
إذاً هذه قصة ماء الرجيع، وكانت مأساة حقيقية للمسلمين، عشرة من خيار الصحابة ماتوا في وقت واحد.
في نفس الوقت الذي خرج فيه هؤلاء العشرة إلى ماء الرجيع حصلت قصة ثانية في وقت متزامن، يعني: قبل أن يصل خبر قتل هؤلاء العشرة حصلت قصة ثانية خطيرة جداً.