في نفس الوقت كان في غزوة بدر أثر سلبي ضخم جداً على مشركي مكة الذين خرجوا وفجعوا بهذه الفجيعة الضخمة في بدر، فهي ضربة قاصمة هائلة لقريش، وهزة عنيفة لكبرياء قريش وكرامتها وعزتها، فقد كانت قريش أمنع قبيلة في العرب وأعزها وأكبرها، لها تاريخ وكل قبائل العرب تحترمها، لكن الوضع بعد بدر اهتز بشكل مريع، فسبعون واحداً من المشركين الذين شاركوا في بدر قتلوا، وسبعون كذلك أسروا، وقارن بين هذه الغزوة وسرية نخلة، فسرية نخلة انتفضت فيها قريش وقلبت الجزيرة العربية وقامت بحرب إعلامية، وكان المقتول فيها واحداً والمأسور فيها اثنين، من خلال ذلك ستعرف مدى المأساة التي وقعت على أهل قريش بعد هذه الغزوة العظيمة غزوة بدر، كذلك هؤلاء السبعون الذين قتلوا هم عمالقة الكفر وقادته وأئمة الضلال في الأرض، منهم فرعون هذه الأمة أبو جهل، ومنهم الوليد بن المغيرة، ومنهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وغيرهم كثر.
هؤلاء السبعون قتلوا في يوم واحد وفنوا في لحظة واحدة، فياله من شيء يشيب له الولدان، فيا ترى! كيف كان تأثر قريش لما وصل الخبر؟ قام الحيسمان بن عبد الله الخزاعي بإيصال الخبر، فما زالت قريش لا تعرف عن أخبار بدر شيئاً، فلما رأوا الحيسمان بن عبد الله الخزاعي قادماً قالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سماهم، فاندهش صفوان بن أمية حتى قال: والله إن يعقل هذا، فاسألوه عني، لو سألتموه عني سيقول لكم: قتل كذلك، فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو ذا جالس في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا! كان هذا طبعاً الخبر كالصاعقة على أهل قريش؛ لذلك لم يصدقوا، فانتظروا رسولاً ثانياً، فجاء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه أبو لهب -وقد تخلف عن غزوة بدر- قال: هلم إلي فعندك لعمري الخبر.
فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال أبو سفيان كلمات في منتهى الخطورة، قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، فتعجبوا من قوله فقال: لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض والله ما تليق شيئاً -لا تترك أمامها شيئاً ولا تبقي- ولا يقوم لها شيء.
وهكذا صرح أبو سفيان بهذه الكلمات أمام المشركين، والمشركون يسمعون ولا يصدقون، ومع كل هذا الأمر إلا أنهم لا يؤمنون.
وكان أبو رافع رضي الله عنه وأرضاه موجوداً بينهم، وهو غلام للعباس رضي الله عنه، وكان يخفي إسلامه، فلما سمع ذلك قال: تلك والله الملائكة تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده وضربه في وجهه ضربة شديدة، وحصل بينهما نزاع، فاعتلى أبو لهب فوقه وبدأ يضربه، فجاءت أم الفضل زوجة العباس رضي الله عنهما وكانت تخفي إسلامها أيضاً، فأمسكت عموداً وضربت أبا لهب على رأسه حتى شجته شجة منكرة، وقالت له: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام أبو لهب مولياً ذليلاً، ولم يعش بعد هذه الضربة إلا سبع ليال، فقد رماه الله سبحانه وتعالى بمرض يسمى العدسة، وهي قرحة تصيب الإنسان وتقتله في أيام، وكانت العرب تتشاءم من هذه القرحة، فلم يستطيعوا الاقتراب من أبي لهب حين أصيب بها إلى أن مات، ولم يجرؤ أحد من أولاده على الاقتراب منه، وظلَّ مرمياً على الأرض ثلاثة أيام إلى أن انتشرت رائحته في المكان، فخاف أولاده من تعيير العرب لهم بأبيهم، فحفروا حفرة جواره، وأمسكوا عموداً وبدءوا يدفعون به إلى داخل الحفرة، وأخذوا يلقون الحجارة عليه من بعيد حتى سدوا عليه الحفرة.
هذه هي النهاية أبي لهب، وكانت نهايته بعد سبع ليال فقط من غزوة بدر.
وهكذا فقد المشركون في غزوة بدر كل هذا العدد الضخم من القادة، وبعدها بسبعة أيام فقدوا قائداً كبيراً وهو أبو لهب، وكانت نهاية أبي لهب في منتهى الخزي والعار والذلة والمهانة، مع أنه كان كبير عائلة بني هاشم بعد وفاة أبي طالب، ومن المفروض أن جنازته تكون جنازة رسمية في داخل مكة، وتأتي الوفود لتعزية أقاربه فيه، لكن لم يحصل ذلك؛ لأن العرب كانت تتشاءم من المرض الذي مات به أبو لهب.
إذاً: حدث في بدر أزمات كثيرة جداً، أول هذه الأزمات: أزمة سياسية فقد فقدت قريش مكانتها في وسط العرب، واهتزت هزة كبيرة.