إن كانت قصة الأحزاب انتهت فقصة بني قريظة لم تنته بعد، فاليهود أعداء الله وأعداء المؤمنين وأعداء الحق وأعداء الأخلاق الحميدة وأعداء كل خير.
رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من الخندق بعد صلاة الصبح، وذهب إلى بيته بعد غياب قرابة شهر، وبعد عناء كبير ومشقّة بالغة يغتسل صلى الله عليه وسلم، فإذا بجبريل عليه السلام قد جاءه عند الظهر فقال له:(قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه) أي: أن الملائكة لم يضعوا السلاح، بل في رواية السيدة عائشة عند الطبراني والبيهقي تقول:(فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل).
سبحان الله! يقاتل جبريل عليه السلام قتالاً حقيقياً في أرض المعركة.
قال جبريل:(اخرج إليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة)، وفي رواية:(أن جبريل قال: إني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم، وأقذف في قلوبهم الرعب) وهكذا سار جبريل عليه السلام في موكبه من الملائكة، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أمر المسلمين بالتوجه السريع إلى بني قريظة، وليس هناك راحة بعد هذا الشهر الطويل، إنما الراحة هناك في الجنة، أما الدنيا فهي دار عمل، فقال:(لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) وهكذا اجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة في ثلاثة آلاف مقاتل، هذا غير الملائكة، في حصار بني قريظة، واستمر الحصار (٢٥) ليلة، تقريباً كالحصار الذي كان على المسلمين في المدينة المنورة.
ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال تحول المسلمون من محاصَرين إلى محاصِرين في لحظات، واستمر الحصار كما قلنا (٢٥) ليلة، وبعد كل تعب الخندق لا يزال المسلمون في قوة، يحاصرون (٢٥) ليلة، وفي النهاية قذف الله عز وجل الرعب في قلوب اليهود، فنزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان بإمكانهم المطاولة في الحصار، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يُقيدوا فقيدوا، فجاءت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا حلفاء بني قريظة في الجاهلية، وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج، وقد كان من المقرر أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقتل بني قينقاع، لكن جاء عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم الخزرج واستنقذهم منه، فجاءت الأوس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت:(يا رسول الله قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء بنو قريظة موالينا فأحسن فيهم، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى قال: فذاك إلى سعد بن معاذ.
قالوا: قد رضينا) فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة مصاباً، فأتوا به من المدينة المنورة راكباً على حمار، فلما رآه الأوس التفوا حوله، وقالوا: يا سعد! أجمل في مواليك فأحسن فيهم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكّمك لتحسن فيهم، وهو ساكت رضي الله عنه لم يرد عليهم، حتى قال لهم: قد آن لـ سعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، عندما سمعوه يقول هذا عرفوا أن سعداً سوف يحكم فيهم حكماً شديداً، وأتى سعد ووصل إلى المكان الذي فيه الصحابة، ولما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة:(قوموا إلى سيدكم، فقام الصحابة احتراماً لـ سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه وأنزلوه من فوق الحمار، وقالوا: يا سعد! إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك.
قال سعد: وحكمي نافذ عليهم؟ -أي: أن الذي سأقوله سوف يحصل فيهم؟ - قالوا: نعم، قال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم، قالوا: وعلى من هاهنا؟ وأعرض بوجهه رضي الله عنه وأرضاه، وأشار ناحية الرسول عليه الصلاة والسلام)، وهو لا يريد أن يقول: وحكمي نافذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أدبه رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم:(نعم، وعليّ -أي: أن حكمك ينفذ عليّ- قال: فإني أحكم فيهم أن يُقتل الرجال وتُسبى الذرية وتقسّم الأموال، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات) وبدءوا بتنفيذ حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وجمعوا يهود بني قريظة وقتلوا الرجال جميعاً، كان تعدادهم تقريباً (٤٠٠) وفي بعض الروايات: (٧٠٠)، وقتل معهم حيي بن أخطب الذي وعد قبل هذا كعب بن أسد.
قال له: لو رجعت غطفان وقريش فسأدخل معكم في الحصن، ودخل في الحصن معهم وقُدِّم للقتل، فقد كان تاريخه أسود وطويلاً مع المسلمين، وانظر إلى قوله للرسول عليه الصلاة والسلام وهو في حالة القتل، قال: والله ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يغالب الله يُغلب، إذاً: هو يعرف أنه يُغالب رب العالمين سبحانه