عند عودة المسلمين من هذه السرية من أرض نجد أسروا رجلاً كان في طريقهم لم يكونوا يعرفونه، فلما أتوا به إلى المدينة المنورة تبين أن هذا الرجل هو ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، فهو من أعظم وأكبر زعماء العرب مطلقاً في ذلك الوقت، فقد كان ذاهباً من بني حنيفة متنكراً من أجل أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، لكن تعالوا لننظر ماذا سيحصل مع هذا الأسير؟ وما هي الآثار التي نتجت عن أخذ هذا الأسير الكبير؟ أخذ المسلمون هذا الأسير وربطوه في سارية من سواري المسجد النبوي، فخرج صلى الله عليه وسلم وسأله:(ما عندك يا ثمامة؟) لنتصور حلم ورفق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب رجلاً يعلم أنه جاء ليقتله: (ما عندك يا ثمامة؟ فقال ثمامة: عندي خير يا محمد).
ثم عرض على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمور، يقول:(إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: لو قتلتني ورائي قبيلة كبيرة جداً بنو حنيفة ستأخذ بثأري، فدمي لن يذهب هدراً.
هذا أول شيء، وهذه صيغة تهديدية، (إن تقتل تقتل ذا دم).
الثاني:(وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: لو أطلقتني بغير فداء سأحفظ لك هذا الجميل وأشكره لك.
الثالث:(وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت) يعني: إن طلبت المال كفدية سنعطيك منه ما تشاء؛ لأن ثمامة من أغنى أغنياء العرب، وتصور هذا العرض والمدينة في حالة من أشد حالات الفقر.
إذاً: هذه اختيارات ثلاثة عرضها ثمامة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام آثار آثر يرد سريعاً على هذه الاختيارات الثلاثة، بل تركه مربوطاً في سارية المسجد يشاهد حركة المسلمين وتعامل المسلمين وصلاة المسلمين ودروس المسلمين، فالمسجد كان حياة المسلمين كلها، كل شيء يحصل في المسجد، حتى الأمور السياسية والعسكرية الخطيرة تتم في داخل المسجد، ويؤخذ القرار في داخل المسجد.
فـ ثمامة بن أثال وهو مربوط يرى واقع المسلمين وحياة المسلمين وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الأخ وأخيه، يرى الإسلام بصورة واقعية تماماً.
فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني وسأل ثمامة نفس السؤال قال:(ما عندك يا ثمامة؟) فرد عليه بنفس الرد وعرض عليه الأمور الثلاثة، فتركه الرسول عليه الصلاة والسلام للمرة الثانية ورجع له في اليوم الثالث وقال له:(ما عندك يا ثمامة؟) فرد ثمامة بنفس الرد، هنا الرسول صلى الله عليه وسلم سيختار أحد الاختيارات الثلاثة، فالرسول عليه الصلاة والسلام رأى ثمامة رجلاً عاقلاً سيداً شريفاً زعيماً، ومن ورائه رجال وأقوام، وراءه قبيلة كبيرة جداً قبيلة بني حنيفة، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لاحظ انبهار ثمامة بن أثال بالمسلمين وبطبيعة الدين الإسلامي، ولاحظ انبهار ثمامة بالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إسلام ثمامة محتمل، فلو أطلقه بدون فداء لعل هذا يؤثر فيه ويسلم، وقد يسلم من ورائه أيضاً قبيلة بني حنيفة، وكان إسلام الرجل أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الدنيا جميعاً، أن يسلم واحد ويستنقذ من الكفر إلى الإيمان هذا يساوي عند الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من كل أموال الدنيا، لذلك اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ثمامة بغير فداء.
تصور هذا أسير ثمين جداً ويطلقه هكذا بغير فداء! أنعم عليه آملاً أن يكون ثمامة بن أثال صادقاً عندما قال:(إن تنعم تنعم على شاكر)، وهذا التصرف في حسابات أهل الدنيا من السياسيين يعتبر تصرفاً غير مفهوم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم دولة فقيرة، وهي لا زالت خارجة من أزمة اقتصادية طاحنة، ولو طلب الأموال الطائلة لبذلت لفك أسر ثمامة بن أثال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يفكر في الدنيا بكاملها، كل الذي يفكر فيه استنقاذ ثمامة وقبيلة ثمامة من براثن الكفر وجذبهم إلى جنة الإيمان، ولا يفقه ذلك إلا سياسي مؤمن، وثمامة كان عند حسن ظن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد خرج مسرعاً من المسجد النبوي بعد أن أطلق سراحه، انطلق إلى نخل قريب من المسجد عنده بئر من الآبار فاغتسل من هذا الماء الذي في البئر، والظاهر أنه سأل قبل ذلك عن كيفية الإسلام، لكنه لم يرد أن يسلم وهو في قيده؛ من أجل ألا يتهم بالنفاق، أو يتهم أنه أسلم ليطلق سراحه، وإنما انتظر حتى أطلق ثم اغتسل وجاء بنفسه مختاراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه بين يديه، فعل ذلك بكل حسم وعمق إيمان، لم يفكر في الرجوع إلى بلده للاستشارة وأخذ الرأي،