طبقة المؤمنين الصادقين القاعدين عن أمر الله مؤقتاً
الطبقة الثالثة في المجتمع المسلم الصالح: وهي طبقة من المؤمنين الصادقين، ولكن من الذين غلبتهم شهواتهم، وانتصر عليهم شيطانهم في لحظة، فأقعدهم عن أمر الله عز وجل مع إيمانهم به، وهؤلاء أحياناً يكونون من طبقة عمالقة الإيمان، لكن كل إنسان يخطئ، كل إنسان يقعد ويفتر.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه:(كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، (كل بني آدم) على الإطلاق هكذا، كل الناس يخطئ ويعصي إلا المعصومين فقط من الأنبياء والمرسلين، هؤلاء المخطئون قد يقعدون عن الجهاد في سبيل الله في وقت تعينه، ليس إنكاراً لأهميته، وليس استهزاءاً بالتشريع، ولكنها لحظة من لحظات الضعف البشري المتوقع، وكلما ارتفع مستوى التربية في المجتمع، وكلما حرصت القيادة على أخلاقيات ومبادئ وقيم الأمة، قلت أعداد هذه الطائفة الثالثة.
فطائفة المؤمنين القاعدين مؤقتاً، أو طائفة المؤمنين المتخلفين عن الجهاد بدون عذر سائغ، مهما كان مستوى التربية راقياً ومتميزاً، لابد أن توجد هذه الطائفة، ويستحيل أن يوجد مجتمع إسلامي مهما كان بدون هذه الطائفة.
لو كان هناك إمكانية لوجود مثل هذا المجتمع الخالي تماماً من معصية بين صفوف المؤمنين لكان هذا المجتمع هو مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا يستحيل فعلاً؛ لأن البشر ليسوا ملائكة، ولا يطلب منهم أن يكونوا ملائكة، ولكن يطلب منهم أن يتوبوا بسرعة إذا أذنبوا، وأن يشعروا بغصة في حلوقهم، وألم في قلوبهم عند ارتكاب الذنب، وهذا الكلام يمهد بعد ذلك للتوبة؛ لكون التربية كانت متميزة فعلاً في أيام تبوك، بل باهرة، فإن إعداد هذه الطائفة قلت إلى درجة لا يتصورها إنسان.
أتعلمون كم كان عدد المتخلفين من المؤمنين الصادقين؟ تخلف عن الركب ثلاثة فقط، من أصل ثلاثين ألف مجاهد، وهي أقل نسبة تخلف عن الجهاد في العالم كله بين صفوف المؤمنين.
هؤلاء الثلاثة هم أيضاً من طبقة عمالقة الإيمان الذين سبقوا بإيمانهم وجهادهم وعملهم الصالح، لكنها كانت هفوة لن تتكرر، ذنب تابوا منه سريعاً، هؤلاء الثلاثة كانوا: كعب بن مالك رضي الله عنه، ومرارة بن الربيع رضي الله عنه، وهلال بن أمية رضي الله عنهم، أقعدهم النظر في أموالهم، والتسويف في أمر الخروج للجهاد، ولا يقول أحد: ليتهم خرجوا لكي تكون نسبة الخروج في الصف المؤمن ١٠٠%؛ لأن هذا مستحيل، لو خرج هؤلاء لقعد غيرهم، وهذه رحمة من رب العالمين بنا، ولماذا أقول: رحمة؟ لكي نرى أحداث السيرة بعد مرور مئات السنين وفي الصف المؤمن قدوة لنا في كل موقف، فيمكن أن يحصل في يوم من الأيام أن واحداً فينا يتخلف عن الجهاد لسبب أو لآخر، فتكون عنده فرصة أخرى للرجوع، عنده فرصة أخرى ليتوب، عنده فرصة أخرى ليخدم الإسلام والمسلمين، فلا تكون كارثة نقف أمامها مكتوفي الأيدي.
فالسيرة النبوية صيغت بعناية، ورسمت بقدرة إلهية عجيبة؛ ليحدث فيها كل ما يحدث في الأرض وإلى يوم القيامة، ومن ثم نرى تصرف الرسول عليه الصلاة والسلام في كل المواقف، ونستطيع التأسي به صلى الله عليه وسلم، ولتحقق الآية الكريمة الشاملة الجامعة:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:٢١].
فإذاً: هؤلاء ثلاث طوائف مؤمنة برزت وبوضوح في أزمة تبوك، وهي موجودة بدرجات متفاوتة في أي مجتمع مسلم: طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عامة المؤمنين الصادقين، وطبقة المؤمنين المتخلفين عن أمر الله بصفة مؤقتة، وتقل أو تزيد نسبة كل طبقة حسب طريقة التربية، ومستوى الفهم عند الجيل.