[قبل الوفاة بخمسة أيام]
في يوم الأربعاء سبعة ربيع أول سنة إحدى عشرة هجرية قبل الوفاة بخمسة أيام ارتفعت درجة حرارة الرسول صلى الله عليه وسلم جداً، واشتد ألم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أغمي عليه أكثر من مرة، فلما أفاق في إحدى المرات أراد أن يخرج إلى المسلمين حتى يوصيهم، فما استطاع أن يتحرك صلى الله عليه وسلم.
فقال لأهله: (هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب عليه الماء، حتى طفق يقول صلى الله عليه وسلم: حسبكم حسبكم، وشعر عند ذلك صلى الله عليه وسلم بخفة، فدخل المسجد وهو معصوب الرأس، وصعد المنبر والناس مجتمعون حوله فقال: لعنة على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
هذه إشارة شديدة الوضوح باقتراب أجله صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه للقصاص، فقال: (من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه).
يقول ذلك صلى الله عليه وسلم وهو الذي لم يظلم في حياته قط، بل كان دائم التنازل عن حقه، وما غضب لنفسه قط صلى الله عليه وسلم.
يقول ذلك وهو الذي كان يحب الرفق في كل شيء، وهو الذي لم يتلفظ بفحش ولا سوء، ولا طعن حتى في أشد مواقف حياته صعوبة صلى الله عليه وسلم.
ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بالأنصار، فقال: (أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي).
يعني: خاصتي وموضع سري: (وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم).
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كلاماً مؤثراً غاية التأثير، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن عبداً خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده، يقول أبو سعيد رضي الله عنه: فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فتعجب الصحابة رضي الله عنهم من بكاء الصديق رضي الله عنه، قال أبو سعيد الخدري: فعجبنا له، قال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ -يقصدون أبا بكر الصديق - يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا).
لم يدرك الصحابة في هذه الساعة ولم يتصوروا أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو العبد المقصود بالتخيير، ولكن الصديق رضي الله عنه بما له من حس مرهف وعلم واسع أدرك ذلك الأمر فبكى رضي الله عنه وقال: (فديناك بآبائنا وأمهاتنا، يقول أبو سعيد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، ثم قال: لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر).
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من هذه الوصايا المؤثرة في ذلك اليوم دخل بيته.