[دور المنافقين في غزوة تبوك]
ماذا فعل المنافقون في أزمة تبوك؟ أولاً: قرروا جميعاً التخلف عن الجهاد سواء بالمال أو بالنفس: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:٨٦].
ثانياً: لم يترك هذا التخلف أي ألم في قلوبهم، ولا أي حزن في مظهرهم، بل على العكس، كانوا سعداء بهذه المعصية، ملأ السرور بجريمتهم قلوبهم إلى الدرجة التي قال الله عز وجل في حقهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:٨١].
ثالثاً: لم يكتفوا بالتخلف ولا بالفرح بهذا التخلف فقط، ولكن بدءوا يثبطون المؤمنين الصادقين عن الخروج، واستخدموا في ذلك دعايات شتى، ووسائل متعددة، وذلك مثل قولهم: {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:٨١]، ومثل قولهم للصحابة: أتحسبون جلاد بني الأصفر -الرومان- كقتال العرب بعضهم بعضاً؟! والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.
رابعاً: كان موقفهم من المؤمنين الذين أنفقوا في سبيل الله موقفاً شديد الخبث، وقفوا يطعنون في كل المتمسكين بالدين مهما كان فعلهم، إذا أتى غني من المسلمين بمال قالوا: إنما أنفقه رياء، وإذا أتى فقير بمال قليل بحسب قدرته سخروا منه، وسخروا من قلة عطائه واستهزءوا به.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:٧٩]؛ فمن أنفق كثيراً سخروا منه، ومن أنفق قليلاً سخروا منه.
خامساً: تجاوز فعلهم ذلك، وبدءوا يبحثون عن أدلة شرعية -أو يوهمون الناس أنها شرعية- للتخلف عن الجهاد، ولإثارة الشبهات بين المسلمين، مثلما فعل الجد بن قيس من بني سلمة عندما رفض الخروج إلى تبوك لقتال الروم بزعم أنه يحب النساء، ونساء الروم جميلات، ويخشى أن يفتن بهن، فادعى أنه من ورعه وتقواه وتقويمه للأضرار اختار أخف الضررين، وهو التخلف عن الجهاد؛ ليحمي نفسه من فتنة النساء! وفيه نزل قول الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:٤٩].
وهذا كلام خطير جداً؛ لأن الكثير من المنافقين يستخدمون (قال الله) و (قال الرسول) في ثني المجاهدين في سبيل الله عن جهادهم، ولابد أن ينتبه المؤمنون لهذا الكلام.
سادساً: أن منهم من قام بخطة أشد خبثاً من ذلك، وهي أنه قرر الخروج مع الجيش لمسافة ما، ثم يرجع من منتصف الطريق، لعله يسحب معه عند الرجوع عدداً من المسلمين الصادقين، مثلما عمل عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة أحد وكرره مرة أخرى في تبوك.
سابعاً: أشد المنافقين شراً قرروا الخروج فعلاً مع المسلمين إلى آخر المطاف لبث الفتنة طوال الرحلة، وللكيد للمسلمين في كل مراحل القتال، والكيد لرسول صلى الله عليه وسل قدر المستطاع.
ونلاحظ في الكلام الماضي أن المنافقين كانوا يحاولون الالتزام بالقانون العام في الظاهر، لا يتخلفون عن الجهاد إلا باستئذان؛ لكي يوهموا الجميع أنهم لا يزالون مسلمين منقادين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يأذن لهم بالقعود؛ لأنه مقتنع تمام الاقتناع أنه لن يجاهد إلا من رغب في الجهاد حقيقة، لكن رب العالمين سبحانه وتعالى عاتبه في ذلك، قال سبحانه وتعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:٤٣].
ولو أنه صلى الله عليه وسلم رفض أن يأذن للمنافقين لقعدوا برغم الرفض، وهنا كانت ستكشف أوراقهم للمسلمين؛ فيعلم المسلمون أمرهم عن بينة.
هذا كان وضع المنافقين في أزمة تبوك.