[موقف المشركين من إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم وتمثيلهم بالشهداء]
ما زال المشركون يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وبعض المسلمين مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعض المسلمين شهداء في أرض الموقعة، وبعض المسلمين فر إلى أماكن مختلفة من الجبل، وبعض المسلمين فر إلى المدينة المنورة.
فالوضع كما ترون كان مأساوياً حقيقياً.
وجاء أبو سفيان ليشمت بالمسلمين، فعرف أن هناك مجموعة من المسلمين قد فرت إلى الجبل، فجاء هو ومن معه من المشركين؛ ليخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان حياً، أو ليتأكد على أنه قتل، فنادى أبو سفيان: أفيكم محمد؟ فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه: لا تجيبوه.
أشار إشارة فهم منها الصحابة ألا يجيبوا أبا سفيان؛ حتى لا يكشفوا المكان الذي هم فيه، فلم يجب الصحابة، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجيبوه فلم يجبه أحد، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ وأخذ يرتب في سؤاله عن الأشخاص، فمن أهم شخصية إلى الوزير الأول ثم الوزير الثاني فلم يجيبوه.
ففرح أبو سفيان وقال: أما هؤلاء الثلاثة فقد كفيتموهم، أي: قد قتلوا، فلم يتمالك عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه.
قال: أي عدو الله! إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله ما يسوءك، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال له: لا تتكلم، لكنه لم يستطع أن يمسك نفسه، فأحب أبو سفيان أن يرد الغيظ إلى المسلمين مرة أخرى، فقال كلمة شنيعة، قال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني.
فانظر إلى الشر الذي كان في داخلهم في تلك الساعة، فإن من طبيعة العرب ألا يمثلوا بالجثث، لكن خرجوا عن منهجهم تماماً في هذه الموقعة، وأراد بذلك أن يغيظ عمر بن الخطاب ومن معه من المسلمين، ثم قال: أعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونه؟ فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال الصحابة: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال.
فأجاب عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) وفي رواية: أن الذي قال هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عند ذلك قال أبو سفيان: هلم إلي يا عمر! فقد كان أبو سفيان يسمع صوت سيدنا عمر رضي الله عنه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ائته فانظر ما شأنه -أي: انظر ماذا يريد- فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر! أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليستمع كلامك الآن، فقال أبو سفيان -وانظر إلى احترام المشركين للمسلمين- أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر).
إن احترام المسلمين موجود عند كل المشركين، وعند كل أعداء الأمة، فهم يحاربونك ويقاتلونك ويضيقون عليك الخناق، وفي داخلهم يكنون الاحترام الكامل لشخصيتك ولدفاعك عن مبادئك، ولتضحيتك في سبيل دينك وفكرتك، هذا هو الواقع؛ لذلك صدّق أبو سفيان عمر وهو عدو له، ولم يصدق ابن قمئة أحد جنود الجيش المشرك معه.
وانسحب أبو سفيان، ولم يفكر أن يصعد الجبل مرة ثانية واكتفى بما فعل، وعاد مع المشركين في اتجاه مكة، وانتهت موقعة أحد بذلك.