[مجيء التغيير والنصر والتمكين للمسلمين من حيث لا يحتسبون]
السنة الثانية: يأتي التغيير ويأتي النصر ويأتي التمكين من حيث لا يحتسب المسلمون، أي: أنه لو راود المسلمين حلم أن يفتحوا مكة كيف سيفكّرون في هذا الأمر؟ من المؤكد أنهم سيضعون سيناريو لهذا الأمر، ولو وضع المسلمون ألف سيناريو للتغيير ولفتح مكة سيأتي التغيير بالسيناريو رقم (١٠٠١).
أي: أن هناك سيناريوهات متوقعة لكي نفتح مكة، مثلاً: أن تخالف قريش عن طريق غزوها المدينة المنورة، فيرد المسلمون بحرب على مكة المكرمة، أو تحاول قريش قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تتعدى قريش على قافلة إسلامية، أو تنتهي السنوات العشر سنوات الهدنة فيحدث بعدها قتال ويدخل المسلمون مكة! فهناك افتراضات كثيرة جداً، لكن لم يحدث الفتح بأي أمر من هذه الأمور، ولا بأي شيء خطر على ذهن أي مسلم، لكن حصل شيء غريب جداً وهو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة مشركة أخرى فتم الفتح للمؤمنين، سبحان الله ما علاقة هذا بهذا؟! إذاً: هذا الذي حصل فعلاً في فتح مكة، ولنأتي لنراجع الأحداث: في صلح الحديبية كان من بنود الصلح البند الثالث في الصلح هو: أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين انضمت، وإذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف قريش انضمت، فبعد انتهاء المعاهدة دخلت خزاعة في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وهذا الدخول لهاتين القبيلتين في قضية المعاهدة هو الذي كان سبباً في فتح مكة المكرمة، أي: أن القضية كانت بين المسلمين وبين قريش، فخزاعة وبنو بكر ليس لهما أي دخل في القضية، ومع ذلك دخولهما في الحلف المعاهدة هو الذي سيؤدي للفتح كما سنرى.
ودخول خزاعة في حلف الرسول عليه الصلاة والسلام أمر يحتاج إلى وقفة؛ لأن الله سبحانه وتعالى دفع خزاعة دفعاً للدخول في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، وخزاعة قبيلة مشركة، نعم هناك علاقات قديمة حميمة بين خزاعة وبين بني هاشم، لكن كان من المتوقع أن تدخل خزاعة في حلف المشركين من بني هاشم، وليس في حلف المسلمين من بني هاشم؛ لأن خزاعة مشركة دينها كدين قريش، فلماذا تترك بني هاشم المشركة وتتحالف مع بني هاشم المسلمة المتمثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هذا أمر عجيب فعلاً! وهذا الدخول العجيب لخزاعة مع حلف المسلمين هو الذي سيؤدي بعد ذلك إلى نتائج كبيرة جداً منها فتح مكة.
وعندما نراجع قصة القبيلتين اللتين دخلتا في المعاهدة نجد أن قبيلة بني بكر وقبيلة خزاعة كان بينهما ثأر قديم، ولعل هذا الثأر هو الذي دفع بني بكر إلى الدخول في حلف قريش، فعندما دخلت خزاعة في حلف المسلمين دخلت بنو بكر في الحلف المعاكس؛ لتكون ضد خزاعة، مع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش ليست على أفضل ما يكون، بدليل أن قريشاً عندما خرجت من مكة المكرمة لحرب المسلمين في موقعة بدر كانت تخشى من غزو بني بكر لمكة المكرمة، ثم ظهر لهم الشيطان في صورة سراقة بن مالك يقول لهم: إني جار لكم من كنانة، وكنانة تشمل بني بكر، فالقصة معقدة جداً، وأحداث القصة فعلاً لا يمكن أن تفسر إلا أن الله عز وجل أراد لها أن تتم على هذه الصورة.
ومع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش معقدة إلا أنها دخلت في حلفها، وخزاعة مع أنها مشركة إلا أنها دخلت في حلف المسلمين، وهذا سيؤدي إلى شيء معين كما سنرى.
وبنو بكر التي نتحدث عنها ليست قبيلة بني بكر بن وائل المشهورة؛ لأن بني بكر بن وائل هذه هي قبيلة من قبائل ربيعة، بينما بنو بكر التي نتحدث عنها هي بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهي من مضر.
وكان بين بني بكر وبين خزاعة خلاف قديم جداً وثأر طويل، وهناك ضحايا قتلتهم خزاعة من بني بكر، وبعد مرور سنوات وسنوات على هذه الجريمة التي قامت بها خزاعة في حق بني بكر تذكرت بنو بكر ثأرها مع خزاعة، فأرادت أن تنتقم، وكان هذا بعد صلح الحديبية، فأغارت بنو بكر على خزاعة وقتلت منهم رجالاً بعد صلح الحديبية، ومعلوم بعد المعاهدة أن من أغار على خزاعة فكأنه أغار على الدولة الإسلامية، وموافقة قريش على إغارة بني بكر على خزاعة هذا نقض صريح لمعاهدة صلح الحديبية التي بينها وبين المسلمين.
ولو أن بني بكر أغارت على خزاعة قبل الحديبية لما أحدث ذلك أي نفع للمسلمين؛ لأن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة مشركة أخرى ولا دخل للمسلمين، ولو أن هذا الأمر حدث بعد الحديبية مباشرة لعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو فتحها، ولو ضبطت بنو بكر أعصابها ولم تخالف لما مُهّد الطريق للفتح، ولو وقفت قريش لبني بكر وعارضتها في ذلك الأمر واعتذرت للمسلمين لكان الموقف قابلاً للحل السلمي، ولكنَّ قريشاً أعانت بني بكر على حرب خزاعة في تهور عجيب.
ولعل الموقف هذا لو تكرر ألف مرة مع قريش لن تأخذ هذا الرأي، ولن تعمل هذا العمل، لكنها مدفوعة لذلك من رب العالمين سبحانه وتعالى، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:١٥ - ١٦].
فهجمت بنو بكر على خزاعة، وخزاعة غير مستعدة للقتال؛ لأن صلح الحديبية فيه هدنة والحرب موضوع