للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من إشاعة مقتل عثمان بمكة]

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فمع الدرس الثالث من دروس السيرة النبوية في العهد المدني في فترة الفتح والتمكين، وقد ذكرنا في الدرس السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا أنه يذهب هو وأصحابه إلى مكة المكرمة للعمرة، وأنه أخذ أصحابه وخرج متوجهاً بهم إلى مكة، وكانت تداعيات هذا الأمر كبيرة جداً في مكة المكرمة، فقد حاول القرشيون في مكة المكرمة قدر استطاعتهم أن يمنعوا رسول صلى الله عليه وسلم من دخول مكة المكرمة، ودارت بينهم مفاوضات كثيرة كما ذكرنا، وفي النهاية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه سفيراً للمسلمين إلى قريش؛ ليتفاوض معهم في أمر دخول المسلمين إلى مكة للعمرة، فكان المشركون في موقف صعب، وكما ذكرنا في الدرس السابق: أن موقف قريش مع كونها قبيلة كبيرة وعزيزة كان ضعيفاً شديد الضعف، فقد وقفت قريش حائرة مع صلابة وقوة وعزة المسلمين، وما استطاعت أن تأخذ قراراً بحرب المسلمين، وبدأت تقدم رِجْلاً وتؤخر أخرى، وترسل وسطاء الواحد تلو الآخر، ومحتارة ماذا تعمل مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع أصحابه، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يحملون معهم إلا سيف المسافر فقط، فقوتهم ضعيفة نسبياً بالمقارنة إلى قوة قريش وقبائل الأحابيش التي تتحالف مع قريش، لكن مع كل هذه المفارقات بين قوة المسلمين وقوة المشركين إلا أن المشركين حرصوا تمام الحرص على إتمام الصلح بينهم وبين المسلمين، وتجنبوا القتال.

لم يكن هذا القرار سهلاً على قريش، فقد ظلت تفكر أياماً في أمر هذا القرار وعثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في مكة ينتظر قرار قريش.

في هذا الوقت أشيع عند المسلمين أن عثمان بن عفان قد قتل في مكة المكرمة، وهذا أمر خطير ومخالف للأعراف كما تعلمون، فقتل الرسول يعتبر إهانة كبيرة جداً للدولة التي يقتل رسولها، ومخالفاً للأعراف والقوانين، لذلك بمجرد أن وصلت هذه الإشاعة إلى المسلمين ومع أن الإشاعة لم تكن صحيحة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم تعامل مع الموضوع بمنتهى الجدية، فعندما أشيع أن عثمان بن عفان قد قتل جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً وعقد معهم مبايعة، وبايع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة من أعظم البيعات في تاريخ الأرض، عرفت في التاريخ ببيعة الشجرة أو بيعة الرضوان، بيعة الشجرة؛ لأنها تمت تحت شجرة عند الحديبية، وبيعة الرضوان؛ لأن الله عز وجل صرح في كتابه أنه رضي عن أولئك الذين قاموا بهذه البيعة، قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:١٨].

لقد بايع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم جميعاً على ألا يفروا، كما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

وبايع بعض الصحابة على الموت، بل بايع بعضهم على الموت ثلاث مرات، وممن بايع على الموت ثلاث مرات سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه كما جاء ذلك في صحيح مسلم.

إذاً: كانت هذه البيعة خطيرة، وبايع الجميع على عدم الفرار، أي: أنهم سيناجزون القوم، وسيقاتلون قريشاً ولن يفروا أبداً في هذا القتال، مع كونهم لا يحملون إلا سلاح المسافر، إنها بيعة في منتهى الأهمية، بايع جميع الصحابة إلا واحداً فقط وهو الجد بن قيس، وهو كما ذكرنا في الدرس السابق من المنافقين.

وبعد هذه البيعة مباشرة جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القرشيين قد وافقوا على الصلح، وسيأتي رجل منهم ليفاوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنود الصلح.