لم تجد قريشاً حلاً إلا أن تلجأ إلى السلاح المعتاد في أيدي أهل الباطل، إذا وجدوا صلابة في الصف المؤمن، ألا وهو سلاح الإيذاء والتعذيب والتنكيل، سبحان الله، ووالله ما هو إلا سلاح الضعفاء، وهناك من يظن أن من معهم السلاح أقوى من المسلمين، لا، بل هم الضعفاء؛ فهم يختفون وراء سيوفهم وسياطهم ودروعهم، ويخفون معهم ضعفاً شديداً في نفوسهم، يخفون ضعف العقيدة والإيمان والحجة والبرهان، وضعف الشخصية والحكمة والرأي، وضعف الأخلاق والضمير.
إذاً: التعذيب والظلم والإجرام منطق من لا منطق له.
وأنا في حيرة من أمري: كيف لإنسان أن تقبل نفسه أو فطرته أن يرى إنساناً يعذب أمامه، بل ويشارك في التعذيب أو يأمر به؟ أي طبيعة وأي شخصية داخل هذا الإنسان؟ ما شكل قلبه؟ كيف انحطت البشرية إلى هذا المستوى المتدني من فساد الفطرة، الإنسان السليم لا يستطيع أن يرى حيواناً يتألم، فكيف بإنسان يلهب ظهره بالسياط؟ كيف لإنسان أن يحبس إنساناً بلا جريرة أياماً وشهوراً، بل وسنوات، والإسلام قد حرم على المسلم أن يحبس هرة؟ مع كل التداعيات الخطيرة التي تحدث لأسرته ولزوجته ولأولاده ولأمه وأبيه دون ذنب أو خطأ؟ ليس لهم جريمة إلا كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم يصف حال الكافرين مع المؤمنين:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج:٨]، أي: مشكلة المؤمنين أنهم آمنوا بالله عز وجل، فقست قلوب الكافرين، وانطلقوا يفترسون المؤمنين والمؤمنات.
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}[البقرة:٧٤]، هذه نقطة سوداء في تاريخ البشرية حصلت في مكة، وما زالت تتكرر فيمن بعدهم وإلى يوم القيامة.
مرّ بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه بسلسلة مضنية من التعذيب، كان أمية بن خلف عليه لعنة الله يعذبه، تعذيباً معنوياً وبدنياً لا ينقطع، فقد كان أمية يضع في عنقه حبلاً ثم يأمر أطفال مكة أن يسحبوه في شوارع وجبال مكة، ولم يكن هذا لمدة يوم أو يومين، بل كان لفترات طويلة إلى أن ظهر أثر الحبل على عنق بلال رضي الله عنه وأرضاه، وكان أمية يمنع عنه الطعام، ويغدو به إلى الصحراء في مكة، ويضعه على الرمال الملتهبة في صحراء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة لا يقوى على حملها إلا المجموعة من الرجال فتوضع على صدر بلال، وهو يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، لكن بلالاً رضي الله عنه وأرضاه صبر، وكان كثيراً ما يكرر: أحد أحد.
ولما سئل: لماذا هذه الكلمة بالذات؟ قال: كانت أشد كلمة على الكفار، فكان يريد أن يغيظهم بها.
فصبر بلال رضي الله عنه وأرضاه وما بدل وما غير، إلى أن اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم أعتقه بعد ذلك، ومرت الأيام ونسي الألم، لكن يبقي الأجر، واحفظوا هذه الجملة: يذهب الألم ويبقى الأجر، كل شيء يذهب، الدنيا كلها تذهب، لكن يبقى الأجر والثواب.
ياسر وسمية رضي الله عنهما والدا عمار بن ياسر رضي الله عنهم عذبا تعذيباً شديداً، وكان أبو جهل عليه لعنة الله يعذبهما مع عمار بنفسه، وزاد العذاب فوق الحد، إلى أن وصل الأمر أن قتل ياسر وسمية رضي الله عنها في بيت الله الحرام، وما ذنبهم حتى يعذبوا إلى أن يموت الأبوان، ليس لهم أي ذنب إلا إنهم أناس يتطهرون، وذنبهم أنهم يريدون الخير لهم ولكم وللمجتمع وللأرض كلها، وأنهم أناس صالحون يريدون أن يعبدوا ربهم بالطريقة التي شرعها الله، لكن {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:٤٦]، قتل ياسر وقتلت سمية، لكن من الذي انتصر في النهاية؟ القاتل أو المقتول؟ سيأتي يوم عظيم، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطففين:٦]، في هذا اليوم سيأتي الذين عذبوا المسلمين على مر العصور، ويغمسون غمسة واحدة في نار جهنم، وسينسى هؤلاء الهمجيون سعادة الدنيا جميعاً بغمسة واحدة، فما بالك بالخلود في جهنم مع العذاب الشديد! وفي ذات اليوم سيأتي أيضاً بلال وياسر وسمية ومن سار على نهجهم، أولئك الذين عذبوا في سبيل الله عز وجل، سيأتي هؤلاء وسيغمسون غمسة واحدة في الجنة، وسينسى المؤمنون شقاء الدنيا جميعاً، أي جهل وغباء وحماقة يعاني منها أولئك المعذبون لغيرهم؟ {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}[المطففين:٤ - ٥].