[المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار]
الطائفة الثانية: طائفة المهاجرين من مكة إلى المدينة، وكان وضعهم الاقتصادي في منتهى الخطورة، فقد تركوا أموالهم، وتركوا الديار والأهل والعشيرة، تركوا كل شيء، وانتقلوا إلى بلد جديد تماماً، وكثير من الذين هاجروا لم يزوروا المدينة المنورة قبل ذلك مطلقاً، وهذه أول مرة يخرجون فيها من مكة إلى المدينة.
تخيل كيف أن شخصاً ترك كل حياته وأعماله وتجارته، وانتقل إلى حياة جديدة وليس معه شيء، وإلى أرض جديدة ليست مألوفة بالنسبة له، وإلى فرع من القبائل لا يمت إليه بصلة قريبة، أضف إلى كل ذلك أن المدينة المنورة كانت تعاني من الفقر، فالأنصار كانوا فقراء، ونحن نظن أن الأنصار أغنياء، وما ذلك إلا لكثرة عطائهم؛ فالإيثار الذي كان يتميز به الأنصار كان يعطيهم صبغة الأغنياء، لكن عموم الأنصار كانوا فقراء، والقلة منهم كانوا أغنياء، فكيف يؤتى بمجموعة من فقراء المهاجرين الذين تركوا كل شيء وراء ظهورهم، فتحمل المدينة المنورة عبئاً ضخماً بإيواء مجموعة أخرى من البشر، وهم لا يكادون يعيشون وينفقون على أنفسهم، فكيف ينفقون على غيرهم؟ فكيف يحل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المشكلة الضخمة؟ فهذه مشكلة اقتصادية كبرى ستواجه المدينة المنورة عند نزول المهاجرين إليها؟ الحالة النفسية أيضاً للمهاجرين كانت صعبة جداً، فالمهاجر قد ترك كل شيء وانتقل إلى المدينة المنورة، فهو يحتاج إلى تطييب الخاطر.
احتوى الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الأزمة بمنتهى الحكمة، وكل هذا كان بمنهج رباني إلهي، فالله عز وجل قد أنزل قرآناً في هذه الأمور، وأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأفعال وأعمال عملها وحدت المسلمين في كيان قوي وجميل جداً.
ومعلوم أن الإنسان الذي يهاجر من بلده إلى بلد آخر يشعر بشيء من الذلة والضعف، ويحتاج إلى من يقول له: لا، أنت لست ذليلاً ولا ضعيفاً، بل أنت قوي عندما تركت بلدك وتركت كل شيء، وكان من الممكن أن يكون كل شيء معك ولا تؤمن بهذا الدين الجديد، فأنت رجل معظم ومكرم ومقدم على غيرك، هكذا فعل الله عز وجل في كتابه الكريم، فقد أنزل آيات رفعت من قدر المهاجرين؛ فالمهاجر أصبح يفتخر بأنه مهاجر، والأنصاري أصبح يفتخر بأنه آوى مهاجراً، وانظر إلى كلام رب العالمين سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:١٩٥]، ويقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:٥٨]، ويقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:٢٠] إلى آخر الآيات.
هذه الآيات وغيرها رفعت من معنويات المهاجرين، فهذا الشيء يدعو إلى الفخر فعلاً، بل نتج عنها تهيئة نفسية جميلة جداً للأنصار، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩] أي: فقر {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:٩].
إذاً: تسابق المهاجرون للهجرة، وتسابق الأنصار للنصرة رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا الأمر ليس موجوداً إلا في المنهج الإسلامي، وانظروا إلى حال اللاجئين في بقاع العالم المختلفة، فأي مجموعة من اللاجئين لأي ظرف من الظروف، سواء كانت ظروفاً عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك يمثلون عبئاً ثقيلاً على أهل البلد التي هاجروا إليها، بل اللاجئون أنفسهم يشعرون بذلة وضعف وهوان؛ لكونهم تركوا ديارهم وأرضهم وعشيرتهم وما يمتلكون، والدولة التي آوتهم تشعر بعبء اقتصادي ثقيل وسياسي، ينتج عن ذلك ضغوط عليها من هنا وهناك؛ وما ذلك إلا لأنهم ليسوا مرتبطين برب العالمين سبحانه وتعالى، والأمر في النهاية يعود إلى الإيمان، فالإيمان من أهم أصول بناء الأمة الإسلامية، بل هو أهمها على الإطلاق.
قال سبحانه في سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:٧٤]، هؤلاء المهاجرون ثم يقول: {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:٧٤] هؤلاء الأنصار {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:٧٤].
إذاً: لا أستطيع أن أبني أي تشريع إسلامي أو قانون