للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تقليل عدد كل فريق من الجيشين في عين الآخر]

الجندي الخامس من جنود الرحمن: التقليل والتكثير في الأعداد، معنى هذا: أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الشخص يرى الأعداد التي أمامه مختلفة عن الواقع، يراها أكثر أو يراها أقل بحسب ما يريد هو سبحانه وتعالى، وهذا الكلام له أثر عجيب في القتال.

تعالوا نرى قصة الأرقام في بدر: جيش المسلمين في هذه الموقعة ثلاثمائة وأربعة عشر تقريباً، وجيش الكفار ألف، والله سبحانه وتعالى يريد للموقعة أن تتم، ولا يريد لأي فريق أن يقرر الهروب، أو عدم الدخول في صدام؛ لأن الله سبحانه وتعالى يدبر المكيدة للكافرين: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠]؛ ولكي يصمم كل فريق على القتال لابد أن يشعر أن الفريق الثاني ضعيف وقليل، ومن ثم يتجرأ عليهم ويقرر القتال، هذا كان قبل القتال.

ومع أن المخابرات المكية حصرت الجيش المسلم، وعرفت أن العدد الواقعي هو ثلاثمائة تقريباً، كما قال عمير بن وهب، إلا أن الله عز وجل قلل أعداد المسلمين جداً في نظر أبي جهل؛ حتى دفعه دفعاً للقتال، فقال أبو جهل: إنما هم أكلة جزور، يعني: مائة فقط أو أقل؛ مما جعله يتحمس جداً لقتال المسلمين، ودفعه دفعاً للحرب.

إذاً: الكفار رأوا المسلمين قليلين.

والمسلمون أيضاً رأوا الكفار قلة، مع أن المخابرات الإسلامية حصرت الجيش الكافر، وعرفت أن عدده ما بين التسعمائة والألف كما قال صلى الله عليه وسلم، وذلك في أول القتال، ولكي يشجع رب العالمين سبحانه وتعالى المسلمين على القتال دون تردد؛ أراهم أن المشركين قلة، وهم في الأصل ألف، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ ألف واحد نزلوا في التقدير إلى سبعين!! تخيل! عندما يرى المسلم الكفار سبعين بدلاً من ألف، سبعين، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فقال لي -يعني: صاحبه- لا، بل مائة.

فسبحان الله! فالمسلمون يشاهدون الكفار مائة، والمسلمون يعرفون أنفسهم أنهم ثلاثمائة، وهذا شجعهم جداً على القتال.

إذاً: كل فريق يرى الفريق الآخر قليلاً، وهذا ما قاله الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال، قال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال:٤٤]، حتى يتم القتال، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال:٤٤].

هذا كان قبل القتال.

ثم بدأت المعركة، وتم ما يريده سبحانه وتعالى من حدوث القتال، فحصل تغيير آخر مهم في عملية الإحصاء والعدد.

أما المسلمون فما زالوا يرون الكافرين قلة، وبالتالي فالمسلمون متحمسون تماماً للقتال؛ لأنهم يرون أنهم أكثر من الكفار بثلاثة أضعاف، وأما الكفار فقد حدث لهم تغير عجيب بعد بدء القتال، فقد دخل في روعهم أن المسلمين ضعف المشركين يعني: ألفين، ودخل في قلوبهم الرعب من المسلمين، وبالتالي انهزموا نفسياً ثم واقعياً، وهذا الحديث تجده في القرآن في سورة (آل عمران) تعليقاًَ على غزوة بدر، قال تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران:١٣]، يرونهم مثليهم: ضعف عدد المشركين، (رأي العين): يرون هذا الأمر بأعينهم ليس وهماً، {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:١٣]، ذكر الله هذه الآيات في كتابه ليس لمجرد التاريخ لغزوة بدر، بل ذكر ذلك عبرة لأولي الأبصار.

فهذه الآيات تفهمنا أشياء كثيرة، منها كيف أن أعداء الأمة مرعوبون من المسلمين المتمسكين بشرع الله عز وجل؛ لأنهم في الغالب يرونهم أكثر من عددهم الحقيقي بكثير، وهذا الذي يجعلهم يتخذون قرارات نحن نرى أنه مبالغ فيها، لكنهم معذورون فيها؛ لأنهم يرون المسلم اثنين، ويرونه ثلاثة، ويرونه عشرة وقد يرونه أكثر.

فهذا جندي حقيقي من جنود الرحمن، التقليل والتكثير من الأعداد.