خرج عمرو بن العاص بالجيش ومن أول لحظات الخروج ظهرت عبقريته رضي الله عنه في الحروب، من أول الطريق قرر أن يسير بالمسلمين ليلاً ويكمن نهاراً، حتى لا ترصده عيون العدو إن كانت على الطريق.
وبالفعل وصل جيشه دون أن تدري عيون قضاعة أنه قد جاء إليهم، وبدأ أيضاً بعبقرية واضحة وبحكمة عسكرية لافتة للنظر يبث العيون هنا وهناك، حتى يستطلع أعداد العدو، فوجد أن أعداد العدو كبيرة، وعلم رضي الله عنه وأرضاه أن طاقته هذه الصغيرة ستكون غير قادرة على مواجهة هذه الأعداد الكبيرة من قضاعة، وفي الحقيقة كان عمرو بن العاص في منتهى الواقعية، وما كان يندفع أبداً بجيشه إلا بعد دراسة متأنية، ولم يكن متهوراً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه، وسنجد هذا الكلام كثيراً جداً في فتوح عمرو بن العاص في فلسطين وفي مصر، ما كان يندفع إلا بدراسة حقيقية للواقع الذي هو مقبل عليه.
وجد رضي الله عنه أن أعداد قضاعة كبيرة فأرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أنني أحتاج إلى مدد، وأمر الجيش الإسلامي ألا يقاتل حتى يأتيه المدد، وبالفعل أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليه (٢٠٠) من الصحابة من وجوه الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، على رأس هؤلاء أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين هذه الأمة، ومن السابقين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وله تاريخ طويل جداً مع المسلمين، وتحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح عدد كبير جداً من السابقين، في مقدمتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكفى بهما، ومعظم المائتين من السابقين، وكلهم على هذا المستوى الراقي جداً، قدم في الخبرة والتاريخ والإسلام وسبق في أشياء كثيرة جداً، فهؤلاء كانوا مدداً لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه.
فعندما وصلوا إلى هناك انضم المائتان إلى الثلاثمائة وأصبح الجيش كله (٥٠٠)، لكن من هو أمير هذا الجيش؟ عندما أرادوا أن يصلوا الفريضة تقدم أبو عبيدة بن الجراح ليؤم الناس، وكان من المعروف أن قائد الجيش هو الذي يؤم الناس، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه اعتبر أنه هو الأمير؛ لأنه جاء على رأس (٢٠٠) من وجوه الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم، وفيهم أبو بكر وعمر، فتقدم أبو عبيدة ليؤم الصفوف، ولكن عمرو بن العاص تقدم وقال: إنما قدمت عليّ مدداً لي، وليس لك أن تؤمني وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إليّ مدداً، وعمرو بن العاص لا يزال حديث عهد بالإسلام، لكنه كما ذكرنا كان كبيراً في السن عمره (٥٧) سنة، أي: أنه أكبر من أبي عبيدة بن الجراح بعشر سنوات كاملة تقريباً، وله تاريخ عسكري معروف، ومن فرسان قريش ومن دهاة العرب، وأيضاً أبو عبيدة بن الجراح له مكانة كبيرة جداً عند الصحابة، وتاريخ طويل جداً كما ذكرنا، لكن عمرو بن العاص رأى أنه أحق بالإمارة، ليس لكونه فقط عسكرياً وعبقرياً في إدارة الجيوش وما إلى ذلك؛ ولكن لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وضعه على إمارة الجيش الأصلي، فله حجة، وعادة الصحابة أنهم ما كانوا يتنازعون الإمارة بهذه الصورة، ومن الواضح أنه لا يزال جديداً في الإسلام، فعرض هذا الكلام فقال: المهاجرون، والمهاجرون كانوا يميلون إلى أبي عبيدة بن الجراح، وأبو عبيدة رجل حيي جداً فاستحى أن يتكلم عن نفسه، فتكلم المهاجرون فقالوا: كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه.
يعني: إذا كنا سنختلف في الأمير، فيكون عمرو بن العاص أمير الثلاثمائة الأوائل، وأبو عبيدة بن الجراح أمير المائتين الذين أتوا مدداً، لكن لا ينبغي أن يكون للجيش الواحد قائدان.
فقال عمرو: لا، بل أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، وكان أبو عبيدة لين الطبع جداً، فخاطب عمرو بن العاص وقال له كلمات جميلة جداً تعبّر عن عمق فهم أبي عبيدة بن الجراح لقضية الإمارة في الإسلام، قال له:(لتطمئن يا عمرو! وتعلمن أن آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك)، فأطاع أبو عبيدة وكان عمرو بن العاص يصلي بالصحابة وهم (٥٠٠) شخص، فيهم أبو عبيدة وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وفيهم الكثير والكثير من المهاجرين والأنصار، وكان الجميع يصلي وراء عمرو بن العاص حديث الإسلام الذي لم يسلم إلا منذ أربعة أشهر.