أولاً: مشاركة القائد لجنوده، مشاركة الحاكم لأتباعه، مشاركة صاحب العمل لعماله، فلو شارك القائد جنوده فإنهم لا شك يخرجون أقصى طاقاتهم، وليس نتيجة خوفهم من القائد لا، وإنما نتيجة شعورهم بقضية مشتركة مهمة، نتيجة إحساسهم أن الموضوع هذا موضوعهم جميعاً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي المطاع والحاكم لدولة المدينة والقائد الأعلى لجيش المسلمين ينزل بنفسه ليحفر مع المسلمين، لا يشرف على الحفر فقط! وإنما يقوم بالحفر بنفسه، فيضرب بالمعول بنفسه، ويأخذ التراب بنفسه، وكشف عن بطنه حتى لا تعوقه الملابس عن الحركة، والصحابة لا يرون بطنه من التراب الذي غطاه.
وهذه هي ضوابط نجاح العمل الجماعي، مع أن الجيش جميعه في جوع ولا يوجد أكل، يقول أنس رضي الله عنه أيام الأحزاب: كان أهل الخندق يؤتون بملء كفي من الشعير -وأنس في ذلك الوقت كان صغيراً فتخيل حجم كفه- قال: فيُصنع لهم بإهالة سنخة -والإهالة: هي الدهن، سنخة يعني: تغير لونها وطعمها من القدم- توضع بين يدي القوم والقوم جياع، وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن.
هو هذا أكلهم.
فإن قيل: ما الذي يأكله قائدهم؟! قال أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه:(شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فرفعنا عن بطوننا عن حجر، فرفع صلى الله عليه وسلم عن حجرين).
إذاً: هنا القائد أكثر جوعاً من الشعب.
فهذا شعب يمكن أن ينجح في أعماله الجماعية، وكثيراً ما نفشل في أعمالنا الجماعية؛ لأننا نسمع خطباً رنانة تدعو إلى الكفاح وإلى العمل والجهد وشد الحزام والانتماء، ثم لا نجد ممن يلقي الخطب الرنانة مساعدة في حفر الخندق، في الليل وحده شعب كادح وقواده مستريحون، شعب بائس وقواده مترفون، شعب جائع وقواده مشبعون، فكيف يمكن أن ينجح العمل في وضع مثل هذا؟ كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عنده طعام قليل من اللحم والخبز، ولا يكفي إلا رجلين أو ثلاثة.
يقول جابر رضي الله عنه: رأيت في النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً -جوعاً شديداً- وأراد أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم واثنين من أصحابه إلى ضيافته، وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن هناك أكلاً، ولم يذهب معه ليأكل سراً، مع أن هذه أكلة اعتزم عليها، وليس من الحرام أن يأكل منها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف على الخندق، ونادى بأعلى صوته: يا أهل الخندق! أخوكم جابر أعد لكم وليمة، وارتبك جابر، فذهب إلى امرأته يقول لها: الفضيحة الفضيحة، جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بأهل الخندق، وكان تعدادهم ألفاً، فكيف سيكون موقف جابر وموقف امرأته؟ هناك موقف لطيف لامرأته، قالت لزوجها جابر: هل أعلمته أن الطعام لا يكفي إلا رجلاً أو رجلين؟ فقال: نعم.
قالت: الله ورسوله أعلم.
قالت ذلك بيقين.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ألف رجل، وبمعجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم أخرج لهم الطعام من البرمة والخبز من الفرن، وأخذ يطعمهم عشرة عشرة، حتى انتهى منهم جميعاً، ثم أكل منه هو صلى الله عليه وسلم، أكل صلى الله عليه وسلم آخر الناس؛ لأنه لا يرى نفسه وإنما يرى شعبه فقط.
إذاً: فهذا من أهم ضوابط العمل الجماعي وعلى أي مستوى، سواء كان العمل الجماعي يتكون من ثلاثة أو من عشرة أو من ألف أو من أمة كاملة؛ لا بد من مشاركة القائد لجنوده أولاً.