[موقف الأنصار رضي الله عنهم بعد فتح مكة وما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم تجاههم]
يتبقى لنا موقف نحب أن نعلق عليه في ختام هذا الدرس وهو مهم جداً، وهو موقف الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
رأى الأنصار الأحداث التي تجري في داخل مكة المكرمة وإسلام الجميع، وهؤلاء جميعاً هم أهل وعشيرة ورحم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاشك أنهم شاهدوا فرحة وسعادة الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الإسلام، وشاهدوا أيضاً استقرار الأوضاع في داخل مكة المكرمة، وإسلام عكرمة بن أبي جهل، وإسلام سهيل بن عمرو، وإسلام فضالة بن عمير، وإسلام قادة مكة بصفة عامة.
فالوضع بدأ يستقر جداً في داخل مكة المكرمة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقف على الصفا يدعو الله عز وجل، والأنصار يقفون تحته يفكرون في وضعهم بعد هذا الفتح، قال بعض الأنصار لبعض: أما الرجل -يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم- فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته؛ لأنهم يرون تفاعله صلى الله عليه وسلم مع الأحداث في داخل مكة.
قال أبو هريرة راوي الحديث كما عند مسلم: (وجاء الوحي، وكان إذا جاء لم يخف عليهم فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي، فلما انقضى الوحي رفع رأسه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا معشر الأنصار، قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة في عشيرته، قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذاً؟ كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم فالمحيا محياكم والممات مماتكم) يعني: أنني سوف أعيش معكم حياتي كاملة، وليس معنى أنني تعاطفت مع هذه الأحداث التي تجري في مكة المكرمة، وأنني فرحت بإسلام هؤلاء العشيرة والأهل والرحم أنني سأبقى في مكة وأترككم.
وقد ذكرنا في بيعة العقبة الثانية أن الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بيننا وبين القوم حبالاً وإننا قاطعوها) فقد بايعوه صلى الله عليه وسلم على حرب الأحمر والأسود من الناس، وصرحوا بأنه بعد هذه البيعة هل إذا استقرت الأوضاع في مكة سيعود إليها صلى الله عليه وسلم ويتركهم مع اليهود أو غيرهم من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل المحيا محياكم والممات مماتكم، أنا منكم وأنتم مني)، فالرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد على نفس المعنى الآن ويقول: (ما اسمي إذاً؟ كلا إني عبد الله ورسوله)، يعني: مستحيل أن أخالف ما تعاهدت معكم عليه قبل ذلك، (إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم، قال أبو هريرة: فأقبل الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون رضي الله عنهم وأرضاهم ويقولون: والله يا رسول الله! ما قلنا الذي قلنا إلا ضناً بالله ورسوله) يعني: ما قلنا هذه الكلمات إلا لأننا نريد الله ورسوله، نريدك أن تكون معنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله ورسوله ليصدقانكم ويعذرانكم)، قبل منهم صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وقبل منهم هذا الظن الذي ظنوه برسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
والأنصار رضي الله عنهم لهم قيمة عالية جداً في ميزان الإسلام، وبذلوا الكثير والكثير رضي الله عنهم، ولم يأخذوا شيئاً لا في الفترة المكية بعد البيعة ولا في الفترة المدنية من أولها حتى هذه اللحظة وإلى آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام شرفهم بكلماته العظيمة، فقال في حقهم: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار).
إذاً: نحن نعذر الأنصار تماماً في هذا الأمر الذي وقعوا فيه، وعذرهم ربهم سبحانه وتعالى ورسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم.
وكل بذل الأنصار قبل الفتح وبعد الفتح له قيمة عالية جداً؛ لأنه كان في وقت الشدة ووقت العناء ووقت المشقة، ولا يمكن أبداً أن يساويه بذل بعد الفتح، بأي صورة من الصور، ومما يؤكد هذا المعنى الأخير هذه القصة التي أختم بها هذا الدرس، وهي عندما جاء مجاشع بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه بأخيه مجالد بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين جاء ليعلن إسلامه بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الفتح، فـ مجاشع من الذين أسلموا قبل الفتح ومجالد أخوه من الذين أسلموا بعد الفتح، فجاء بأخيه ليبايع بعد الفتح، وقال: (جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة فقال عليه الصلاة والسلام: ذهب أهل الهجرة بما فيها، فقال: على أي شيء تبايعه، قال: أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد).
إذاً: فالأنصار مكانة عظيمة جداً، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَ