[حال الدولة الرومانية قبل البعثة النبوية]
أول شيء يلفت الأنظار في ذلك الزمن دولة ضخمة جداً تمتلك نصف الأرض تقريباً وهي الدولة الرومانية، ومن ضخامتها سمى الله عز وجل سورة من سور القرآن الكريم بسورة الروم، ذكر فيها قصة الروم مع الفرس، قال الله: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:٢ - ٤] إلى آخر الآيات، ولكن ما هي الدولة الرومانية؟ كانت الدولة الرومانية ضخمة جداً، مساحتها ممتدة على ثلاثة أرباع أوروبا مقسمة إلى قسمين رئيسيين، دولة رومانية شرقية وعاصمتها القسطنطينية، كان يحكمها القيصر هرقل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيصر هذا لقب للملك الذي يحكم الدولة الرومانية.
وأما الدولة الرومانية الغربية فكانت عاصمتها روما، وهذه سقطت قبل البعثة النبوية ولم تبق إلا الدولة الرومانية الشرقية.
كانت هناك خلافات عقائدية عقيمة بين طوائف النصارى في أطراف الدولة الرومانية الشاسعة، فالدولة الشرقية أرثوذكسية، والغربية كاثوليكية، ودارت بينهما حروب فني فيها الآلاف والآلاف على مدار السنين، وظلت هذه الحروب مشتعلة حتى العهد القريب، وإلى الآن هناك خلافات عقائدية ضخمة، وحروب بين الطوائف المختلفة من النصارى.
أما الجوانب الأخلاقية فقد كانت في انحدار شديد في هذه الدولة، مثل تأخر سن الزواج، أو بمعنى أصح اختفى الزواج، وفضل الجميع العزوبة على الزواج؛ لأن تكاليف الزواج كانت غالية والناس كلها فقراء، الأموال كثيرة جداً في الدولة، ولكنها مجموعة في أيدي قلة قليلة من رجال الدولة الرومانية الواسعة، فأدى ذلك إلى انحلال رهيب بين أوساط الناس، وانتشر الزنا في كل مكان، واختلطت الأنساب.
وأصبحت الرشوة أصلاً في التعامل مع موظفي الدولة، فأي مصلحة تريد أن تقضيها لابد أن تقدم بين يديها رشوة.
والضرائب ضخمة باهظة على كل سكان البلاد، وهي على الفقراء أكثر منهم على الأغنياء.
الوحشية الشديدة في الطباع؛ فمن وسائل التسلية التي كانت في الدولة الرومانية الشرقية: وسيلة صراع العبيد مع الوحوش المفترسة في أقفاص مغلقة، والوزراء والأمراء ينظرون من الخارج، ويستمتعون برؤية الأسد أو النمر وهو يأكل العبد بعد قتال يدوم قليلاً أو كثيراً.
نحن نتعجب من هذه الصورة، ونقول: هذه كانت عادة مجتمعات مظلمة، ولكننا نرى أيضاً في إسبانيا صراع الرجال مع الثيران، وكيف يدمر الثور أو يقتل الرجل والناس تشاهد وتصفق وتهلل، وهي صورة كما يسمونها من صور الحضارة.
أيضاً هناك حروب بربرية همجية وحشية، على سبيل المثال: في عهد اسفسيانوس أحد قياصرة الرومان، حاصر اليهود في أورشليم (القدس) سنة (٧٠ م) خمسة أشهر كاملة، انتهت في سبتمبر سنة (٧٠ م) ثم سقطت المدينة بعد هزيمة مهينة عرفها التاريخ، لماذا نقول: هزيمة مهينة؟ لأن الرومان قتلوا أبناء اليهود ونساءهم بأيديهم، يعني: يجبر كل يهودي أن يمسك بزوجته وأولاده ويقتلهم بنفسه، هكذا أتى الأمر الروماني إلى دولة اليهود المحاصرة داخل مدينة القدس، الغريب أن اليهود أطاعوا ووافقوا على ذلك، وقاموا به من شدة الرعب، وطمعاً منهم في النجاة، وهم أحرص الناس على حياة، وخرجوا يقتلون أبناءهم ونساءهم بسيوفهم، ثم خرجوا للرومان الذين بدءوا بعمل قرعة بين كل اثنين من اليهود، أيهما يقتل أخاه إلى أن صفوا كل اليهود الموجودين في القدس ولم ينج منهم إلا الشريد، أو أولئك الذين كانوا يسكنون في أماكن بعيدة.
إذاً: هذه كانت صورة من صور الحرب الرومانية التي كانت تتميز بالشراسة وأشد أنواع الهمجية المتخيلة.
كان العبيد في المجتمع الروماني ثلاثة أضعاف الأحرار، ومعاملة العبيد كانت في منتهى القسوة، لدرجة أن أفلاطون الفيلسوف صاحب فكرة المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) التي ألفها وتخيلها في عقله، هذه المدينة الخيالية المثالية يقول فيها: إنه لا يجب أن يعطى فيها العبيد حق المواطنة.
مع أنهم من أهل البلد، لكن ليست لهم أي قيمة في بلاد الرومان.
كانت هذه لقطات سريعة من حال الدولة الرومانية في العهد السابق لبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.