[إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ملك عمان وأخيه لدعوتهما إلى الإسلام]
بعد غزوة ذات السلاسل ارتفعت ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم جداً بصدق وذكاء وأمانة وقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، فأرسله صلى الله عليه وسلم إلى مهمة أخرى عظيمة جداً، وهي مهمة السفارة إلى دولة عمان، وكانت عمان دولة مشركة في ذلك الوقت، وكان يحكمها رجل اسمه جيفر وأخوه عباد، والاثنان كانت لهما سيطرة على منطقة واسعة من الأراضي في عمان وما حولها، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إليهما يدعوهما إلى الإسلام وإلى الانضمام إلى الدولة الإسلامية.
وبعد حوار طويل مع جيفر وعباد وبحكمة شديدة وذكاء شديد من عمرو بن العاص رضي الله عنه استطاع أن يقنع عباداً وجيفراً بالإسلام وبالفعل أسلما، بل وأسلم شعبهما بالكامل، ودخلت دولة عمان بكاملها في دولة المسلمين، ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم فقط بجعل عمرو بن العاص سفيراً منه إلى جيفر وعباد، بل عينه جامعاً للزكاة هناك، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك في بلاد عمان، مع تثبيت جيفر وعباد على زعامة البلاد، يعني: وثق الرسول عليه الصلاة والسلام في عمرو رضي الله عنه، وجعله جامعاً للزكاة من تلك البلاد، ولم يكن من السهل أبداً أن يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بولاية إنسان إلا إذا اطمأن تماماً إلى دينه وإلى كفاءته رضي الله عنه ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
فهذه هي قصة عمرو بن العاص في بداية إسلامه.
إذاً: كان الوضع الإسلامي في أوائل رجب سنة (٨) هـ في غاية الاستقرار، وفي رهبة وهيبة، وفي انتصارات متكررة، وفي صورة جديدة جداً لدولة ناشئة في المدينة المنورة، تبسط سيطرتها على أطراف واسعة من الجزيرة العربية.
هذه الأحداث كانت نهاية لفترة معينة، وستبدأ الآن فترة جديدة من أحداث السيرة النبوية، وهي كما ذكرت في أول هذه المحاضرة مقدمات فتح مكة.
عندما نأتي لنتكلم عن فتح مكة لا بد أن نعلم أن فتح مكة يعتبر لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الأرض، حتى إنه إذا ذُكر الفتح معرفاً هكذا (الفتح) عُرف أنه فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحاً، فانتصار المسلمين على أهل خيبر كان فتحاً، وعلى الرومان في مؤتة كان فتحاً، وعلى المشركين في بدر كان فتحاً، فكل هذه كانت فتوحات من رب العالمين، لكن إذا ذُكر الفتح معرفاً هكذا (الفتح) عُرف أنه فتح مكة، وهو أمر ليس بعده شيء آخر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:(لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) يعني: قبل الفتح يمكن للناس أن تهاجر إلى المدينة المنورة، وبعد الفتح انتهت الهجرة، ولكن جهاد ونية، يقول الله سبحانه وتعالى:{لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[الحديد:١٠] أي: أن ما كان قبل الفتح شيء وما كان بعد الفتح شيء، فإنفاق قبل الفتح شيء وإنفاق بعد الفتح شيء آخر، وقتال قبل الفتح شيء وقتال بعد الفتح شيء آخر.
ما معنى الفتح؟ معناه: التمكين لدين رب العالمين سبحانه وتعالى، ومعناه: النصر والسيادة والعلو في الأرض.