للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وفد بني سعد بن بكر من هوازن]

الوفد الثاني في غاية الأهمية أيضاً، مع أن الذي جاء فيه رجل واحد فقط، ومع أنه مكون من رجل واحد إلا نفعه كان عظيماً جداً، ويؤكد على هذا المعنى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من هذا الوافد.

وهذا الوافد كان وافد بني سعد بن بكر من هوازن، ومعظم قبيلة بني سعد أسلمت بعد موقعة حنين، لكن بقيت منها بعض البطون، كان منها هذا البطن الذي جاء منه هذا الوافد، وهذا الوافد كان أعرابياً فيه شيء من الغلظة والجفاء، إلا أنه كان ذكياً جداً، كان عاقلاً، وكان إيجابياً على مستوى عال من الفهم وحسن التصرف.

وقصة هذا الوافد جاءت في صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وأبي داود.

وحاولت أن أجمع لكم قدر المستطاع تفاصيل القصة من هنا وهناك لتكمل الفائدة: جاء هذا الرجل إلى المدينة المنورة والرسول عليه الصلاة والسلام جالس وسط أصحابه، فقال: أيكم محمد؟ هكذا باسمه، يقول أنس بن مالك: وكان النبي صلى الله عليه وسلم متكأ بين ظهرانيهم.

انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائد المهاب والزعيم المنتصر، والذي دانت له كل القبائل، وواجه الرومان، يجلس بين أصحابه في تواضع، بحيث إن الغريب لا يميزه من بين عامة الأصحاب والجنود والأتباع.

لا نرى مثل هذه المواقف إلا في أمة الإسلام.

نحن لا نعرف من هو هذا الرجل، ولا الصحابة أنفسهم يعرفونه، قال الرجل: (يا ابن عبد المطلب! قال صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، قال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك -يعني: لا تغضب مني، فهو يتكلم بحدة وبشدة- فقال صلى الله عليه وسلم في تواضع جم: سل عما بدا لك، قال الرجل: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فمن خلق السماء؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فمن خلق الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.

قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.

قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، تؤخذ من أغنيائنا فتقسم في فقرائنا، قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.

قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدقك.

قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.

قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال صلى الله عليه وسلم: صدق.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.

قال أنس: ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، ثم ولى، فقال صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة).

هذه الفروض إن قام بها الرجل دون نقص فإنها طريق إلى الجنة، أما النوافل فهي ترفع من درجات العبد في الجنة، أو تجبر كسر الفروض المنقوصة، وهذا هو يسر الإسلام، وهذا هو جمال الإسلام.

فذهب ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه إلى قومه بهذه المعلومات التي يعرفها عامة المسلمين رجالاً ونساءً بل وأطفالاً، فماذا فعل؟ لقد عاد ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وأرضاه مسرعاً إلى قومه، فاجتمع حوله الناس فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام! اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه.

فماذا كانت النتيجة؟ يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً.

تصوروا بهذه المعلومات اليسيرة القليلة غيّر ضمام من واقع قبيلة بكاملها، وهدى الله عز وجل به أقواماً، فهم جميعاً في ميزان حسناته، والدال على الخير كفاعله.

هذا الذي فعله ضمام يمنع أياً منا من أن يعتذر؛ بأنه غير مؤهل للدعوة، ولا يمتلك العلم الكافي، ولا نقول لك: أفتِ الناس بما لا تعلم، لكن ما تعلمه وتظنه قليلاً هو بالنسبة لغيرك كثير كثير، ولنا في