[كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي الأعراب والقبائل الكبرى المحيطة بالمدينة]
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبعث للمشركين الأعراب بعض من يدعوهم إلى الإسلام، وكان يتخير أفراد قبيلتهم، فمن أخطر القبائل التي كانت حول المدينة المنورة قبيلة غفار، أرسل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، فأتى بنصف أهلها، ودعا لها صلى الله عليه وسلم بقوله:(غفار غفر الله لها)، واستمرت فيهم الدعوة دون أن ينتقلوا إلى داخل المدينة المنورة، كانوا في ديارهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم من يعلمهم ويدعوهم إلى الله عز وجل.
وفي نفس الوقت أبرز النبي صلى الله عليه وسلم للأعراب قوة المسلمين؛ حتى لا يغتر هؤلاء بأن المهاجرين هاجروا في حالة ضعف أو قلة إلى المدينة المنورة، فيغيرون على المدينة المنورة طمعاً فيها، فأظهر لهم قوة كما سيظهر لنا بعد ذلك، عندما كان يرسل صلى الله عليه وسلم السرايا حول المدينة المنورة.
أما المشركون في القبائل الكبرى التي كانت حول المدينة المنورة، فقد حاول صلى الله عليه وسلم أن يعقد معهم بعض المعاهدات، كما عقد معاهدة مع قبيلة جهينة، وهي قبيلة كبيرة في غرب المدينة المنورة، وكان هذا العقد في منتهى الأهمية؛ لأن غرب المدينة المنورة هو طريق القوافل القرشية المارة من مكة إلى الشام، فإذا أمن صلى الله عليه وسلم قبيلة جهينة استطاعت الجيوش الإسلامية بعد ذلك التحرك في أمان في غرب المدينة، وقطع الطريق على قوافل قريش، كما سيتبين بعد ذلك.
إذاً: كانت سياسته مع القبائل الكبرى المحيطة بالمدينة المنورة محاولة عقد المعاهدات والأحلاف قدر المستطاع، تبقى مشكلة كبيرة جداً، ألا وهي مشكلة مشركي قريش، فبعض الناس يظنون أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا انتقل مسافة (٥٠٠) كيلو متر عن مكة المكرمة فإن مكة هدأ بالها، ولم يعد عندها مشكلة مع المسلمين، وأنه ستهدأ الأوضاع، ولن يُطْلَبَ المسلمون في هذه البقاع البعيدة عن مكة المكرمة.
ولكن هذا ليس صحيحاً، يقول ربنا سبحانه وتعالى:{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}[البقرة:٢١٧]، فلابد أن المشركين في مكة سيسعون قدر المستطاع لغزو المدينة المنورة، وإخراج المسلمين منها، وللتعاون والتحالف مع أعداء المسلمين هنا وهناك لاستئصال شأفتهم تماماً، وهذا ما حدث بالفعل وبطرق مختلفة كما سنرى، وهذا الكلام كله يثبت لنا حقيقة مهمة جداً، وهي أنه لا خيار في المعركة، حتى وإن تجنب المسلمون المعركة، بل لابد أن تحدث سنة التدافع التي شرعها رب العالمين سبحانه وتعالى في خلقه وأرضه وإلى يوم القيامة، تدافع أهل الحق وأهل الباطل، حتى وإن كان أهل الحق لا يريدون أهل الباطل بسوء، لابد أن يبحث أهل الباطل عنهم ليتم اللقاء كما أراد رب العالمين سبحانه وتعالى للحرب بين الحق والباطل.
فيا ترى ماذا عمل المشركون؟ كيف خططوا؟ وكيف دبروا؟ وكيف تعاونوا؟ وكيف أثروا على مشركي يثرب هناك؟ وكيف عقدوا بعض الأحلاف مع القبائل حول المدينة المنورة؟ وكيف حاصروا المدينة المنورة؟ هذا حديث يطول، وأسأل الله عز وجل أن يجمع بيننا على الخير دائماً حتى نتناول هذا الأمر وغيره من الأمور إن شاء الله في اللقاءات القادمة.
ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.