للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة نزول الوحي وأهميته]

سنبتدئ القصة من الآن، لكنها بداية غير تقليدية، لن نبتدئ من ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من نقطة نزول الوحي، وليس هذا تقليلاً من أهمية الأربعين سنة من حياته صلى الله عليه وسلم التي سبقت الوحي، لكن منظور هذه المجموعة هو كيف نبني أمة؟ نحن لن نحكي حكاية الرسول صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى الممات، لكن سوف نستخرج نقاطاً هامة تفيد في بناء الأمة الإسلامية.

الإسلام كدين وكشرع وطريقة بدأ على الأرض منذ لحظة نزول الوحي، ولذلك سنبدأ بالحديث من هذه النقطة، فهذا لا يمنع من أننا نرجع لتحليل بعض النقاط في حياة رسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة إذا كان لها علاقة في التمهيد للبعثة، لكن هذا لن يكون بالترتيب المألوف.

كانت لحظة نزول الوحي على رسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء لحظة عظيمة في تاريخ البشرية، بل إنها أعظم لحظة مرت في تاريخ الأرض ككل إلى يوم القيامة، كثيراً ما نسمع عن هذا الحدث المهيب، لكن القليل منا من يعطي لهذا الحدث قدره، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسولاً إلى الإنسان، ما رأيك لو أنك تلقيت رسالة من زعيم دولة عظمى ووصلت إلى بيتك، يقول لك فيها: أنا أحبك، وخائف عليك، ومهتم بك، وعندي لك خير كثير.

ما موقفك لو تلقيت رسالة بهذا الوعد من هذا الملك العظيم، ولله المثل الأعلى؟! يا ترى كيف سيكون اهتمامك بالرسالة؟ إن الله سبحانه وتعالى بعظمته وجبروته وقدرته وقوته أرسل رسولاً إلى هذا الإنسان البسيط الضعيف الذي يعيش على ظهر كرة معلقة في الفضاء، لا تكاد ترى في الكون الفسيح، هذا حجم الأرض بالنسبة لحجم الكون، فكيف سيكون حجم الإنسان بالنسبة لحجم الأرض؟ حجم الإنسان بالنسبة لحجم الكون شيء لا يتخيل، كذلك حجم الإنسان بالنسبة للملائكة.

إن الناس لا يقدرون لهذا الحدث قدره؛ لأنها لا تعطي لله عز وجل قدره.

إن الله جل وعلا لا يحتاج إلينا ولا لغيرنا، لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، ومع ذلك من رحمته بنا وحبه لنا أرسل إلينا رسالة هداية وبشرى وإنذار، وهذه الرسالة نزل بها أشرف الملائكة جبريل عليه السلام، على أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، بأشرف الكلام القرآن الكريم.

في لحظة الوحي هذه نزل الكلام الذي سيظل دستوراً في الأرض إلى يوم القيامة، هذا الحدث فيه تكريم للإنسان، كما قال ربنا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:٧٠]، ومن أعظم صور التكريم أن أنزل له الوحي، ونزلت له الهداية من رب العالمين سبحانه وتعالى.

أحياناً لا يقدر الإنسان قيمته كإنسان، والله يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:٧٠]، وأرسل له رسولاً من السماء إلى الأرض، وأتى معه بدستور كامل يوضح له كل نقطة في حياته، لكن الإنسان لا يقدر قيمته كإنسان، فأحياناً يقضي حياته في ترف وملذات وشهوات وأوقات ضائعة وطموحات تافهة، وأحياناً يظلم غيره ويؤذيه ويعذبه، هو لا يدري أنه إنسان مكرم يظلم إنساناً مكرماً، بل إن قيمة الإنسانية تنحدر إلى درجات هي أقل بكثير من درجات الحيوانية، لكن التفكر في لحظة الوحي يغير كثيراً من مفهوم الإنسان عن نفسه، وإخوانه من البشر، والأرض التي يعيش عليها.

الوحي عبارة عن رسالة من رب العالمين إلى الإنسان، رسالة لك ولي ولكل واحد على وجه الأرض، افعل ولا تفعل.

الوحي هداية ونور ودليل ليس مجرد تكاليف وقيود أبداً.

الوحي نعمة ورحمة من ربنا سبحانه وتعالى، الله عز وجل المطلع على كل شيء، العالم بكل شيء، الذي يدرك الماضي والحاضر والمستقبل يقول لك: من مصلحتك في هذه النقطة أن تفعل كذا، وإياك إياك أن تفعل كذا، فاتباعك للوحي فيه سعادة الدنيا والآخرة، ومخالفتك للوحي فيه شقاء الدنيا والآخرة.

تخيل نفسك تائهاً في الصحراء ولا تدري أين الطريق، وأنت على مشارف الموت، وفجأة وجدت دليلاً ليس فقط يأخذك لمكان فيه أكل أو شرب، لا، بل لأحسن مكان في الكون ولا يريد منك أي شيء، كل هذا من أجل مصلحتك، فهذا هو الوحي في وسط التيه الكبير الذي تعيشه البشرية يأتي ليأخذ بأيدي الناس إلى السعادة في الدنيا، والسعادة في الآخرة في الجنة.

يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:١٢٣ - ١٢٤] أي: من يعيش في التيه الذي اختاره بنفسه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٤ - ١٢٦] أي: أتاك الوحي فنسيته، وسمعت به ولم ترض أن تتبعه، {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٦]، تداعيات ضخمة تحدث للإنسان بحسب فقهه لقيمة الوحي، الذي يتبع الوحي لا يضل ولا يشقى في الدنيا والآ