[خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في استرجاع سبي هوازن من المسلمين]
تعالوا لننظر إلى المنهج الإسلامي الذي رأيناه من حبيبنا صلى الله عليه وسلم لحل مثل هذه المعضلة، فقد تحرك الرسول عليه الصلاة والسلام في ثلاث خطوات رائعة: الخطوة الأولى: حاول أن يصل مع هوازن إلى حل في منتصف الطريق، ليس من الممكن أن يرجع لهم كل شيء، وحاول أن يصل معهم إلى أكبر تنازل ممكن، بحيث يقبلون به مع ثباتهم على الإسلام، فقال لهم صلى الله عليه وسلم في وضوح: (أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟) حتى في رواية البخاري يقول: (أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بهم) يعني: أنا أخرت توزيع الغنائم لعلكم تأتون، لكنكم تأخرتم، وهو بهذا يحاول أن يلطف قلوبهم.
وهنا يتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بوضوح وبتعقل وبواقعية، لا يندفع بعاطفته إلى أمر قد لا يقدر عليه، ونحن لا بد أن نلاحظ أن السبي والأموال ليست أموراً مسروقة أو منهوبة من هوازن، وإنما هي حق للمسلمين، وتطلب هوازن أن يتنازل عنها المسلمون كرماً منهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم خيرهم بين السبي أو المال، فماذا كان رد فعل هوازن؟ كانوا واقعيين، قالوا: (يا رسول الله! خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، فلترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا) فاختاروا السبي دون الأموال.
الخطوة الثانية: إشعار هوازن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً معهم قلباً وقالباً، وأنه متعاطف معهم إلى أقصى درجة، وسوف يضحي هو شخصياً من أجلهم، وسيبذل قصارى جهده لاسترداد السبي من أفراد الجيش الإسلامي، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام وضع نفسه في خندق هوازن، وصار مدافعاً عن قضيتهم، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ثبت أقدامهم بهذا العرض، فقد قال لهم في تجرد: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) يعني: أنا متنازل عما كان في نصيبي من السبي، وبصفتي عميد لعائلة عبد المطلب فسوف أطلب منهم رد السبي الذي أخذوه منكم، لكن في نفس الوقت أنا لا أستطيع أن أجبر بقية أفراد الجيش على رد ما معهم، لكني سأحاول.
هنا نجد ما نسميه بواقعية العطاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو لم يعد إلا بما يستطيع، وكان كريماً واسع الكرم صلى الله عليه وسلم، تنازل عن نصيبه وأقنع بني عبد المطلب بالتنازل عن حقوقها، لكنه لم يعط ما لا يملك.
الخطوة الثالثة خطوة هائلة مذهلة، لا أعتقد أن لها مثيلاً في تاريخ الأرض: اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع هوازن على القيام بمحاولة لطيفة أمام المسلمين، يقنع فيها أفراد الجيش المسلم بإعادة السبي إلى هوازن.
هذه المحاولة من الرسول عليه الصلاة والسلام يبذل فيها هذا الجهد من أجل قبيلة كانت تحاربه منذ شهرين فقط، بل كانت حريصة تمام الحرص على استئصاله وأصحابه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لقنهم ما يقولونه تماماً باللفظ، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا للناس: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم).
لاحظ العظمة النبوية، هو لم يتنازل عن حقه في السبي وحق بني عبد المطلب بينه وبينهم فقط، بل أراد أن يكون ذلك الأمر في العلن، ليقتدي به بقية المسلمين فيتنازلون عن السبي الذي ملكوه، ثم إنه يعلم وفد هوازن ألفاظاً ترقق من مشاعر المسلمين: (إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله) وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام سيقبل شفاعة المسلمين، وليس من المعقول أن المسلمين لن يقبلوا بشفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد لهم على واقعية الطلب، ينصحهم ألا يطلبوا الأموال والشياة، وإنما يطلبون السبي فقط؛ لكي لا يصعبوا الأمر على المسلمين فتفشل المحاولة، وفوق كل ذلك وعد الرسول عليه الصلاة والسلام وفد هوازن أنه سيسأل بنفسه المسلمين أنهم يرجعون السبي إلى هوازن.
ولاحظ مدى الرقي والتوازن والتعامل الحضاري من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مع كونه زعيم الأمة الإسلامية ورئيس الدولة والرسول المطاع صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يريد أن يجبر المسلمين على رأي يرى أنه لا يجوز له تأميم ما لا يملك، وأن هذا حق المالكين الآن، وليس له دخل فيه، إنما سيدخل في القضية في صورة شفيع أو وسيط يريد الخير بصدق للطرفين.
هل جاء في التاريخ كله شيئاً مثل هذا؟! وعظمة الموقف لم تنته بعد، ما زال هناك فصول في القصة.