للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إرسال قريش سهيل بن عمرو للتفاوض مع النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص بنود الصلح]

نعود إلى الحديبية، قررت قريش الصلح، وقررت أن ترسل رجلاً لإتمام الصلح مع رسول صلى الله عليه وسلم، وهنا لا ينفع أن تبعث قريش وسيطاً من خزاعة أو من ثقيف أو من أي قبيلة غير قريش؛ لأنه سيتفق وسيفاوض في بنود ستتأثر بها قريش تأثراً مباشراً، فلا بد أن يكون واحداً من قريش، إذاً: من تبعث؟ هل تبعث عكرمة بن أبي جهل أم تبعث خالد بن الوليد أم تبعث أبا سفيان أم تبعث صفوان بن أمية؟ لم تبعث أحداً من هؤلاء؛ لأن كل هؤلاء كما يطلقون عليهم في هذه الأيام من: الصقور، كل هؤلاء يريدون أن يحاربوا المسلمين، وقريش لا تريد أن تحارب، هي تريد أن تلطف الأمر بقدر المستطاع، فأرسلت رجلاً من الحمائم رجلاً طيباً كما يقولون، أرسلت: سهيل بن عمرو، وسهيل بن عمرو حياته كلها في مكة هادئة وهو إنسان لطيف وليست له مشاكل ضخمة مباشرة مع المسلمين، ويستطيع أن يتفاوض بلطف مع المسلمين، وهذا ما تريده قريش، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى سهيل بن عمرو قال: (قد سهل لكم أمركم) يعني: أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فالرسول صلى الله عليه وسلم استبشر وبشر المؤمنين، وأخذ من كلمة سهيل معنى فقال: (سهيل قد سهل أمركم)، والفأل الحسن في الإسلام مطلوب، لكن في نفس الوقت كانت قريش حذرة؛ لأن سهيل بن عمرو رجل مصاب من المسلمين في بيته، أتدرون كم شخص أسلم من عائلته؟ أربعة من أولاده أسلموا، وهذه كارثة بالنسبة له، فهذا الرجل سيذهب ليدافع عن قضية شخصية، أسلم أربعة من أولاده وثلاثة من إخوته، أولاده: أم كلثوم وسهل وعبد الله هؤلاء الثلاثة أسلموا منذ زمن بعيد، ويعيشون في المدينة المنورة، والرابع: أبو جندل مسلم أيضاً ومقيد قيده أبوه سهيل بن عمرو قبل أن يخرج؛ لئلا يلتحق بالمسلمين.

وإخوته: السكران بن عمرو وأبو حاطب بن عمرو وسليط بن عمرو، يعني: عائلته تقريباً كلها أسلمت ولم يبق إلا هو، فهو مصاب في عزته في وسط قريش، فذهب يفاوض بكل حمية، ذهب لكي يأخذ من المسلمين كل مصلحة ممكن تكون لقريش.

وهنا لا بد أن نقف وقفة ونقول: إذا قام فريقان بالصلح فمعنى ذلك: أن القوتين متكافئتان، وإذا حرص القوي في الظاهر على الصلح مع الضعيف فاعلم أنه يرى الضعيف أقوى منه، وأنه من داخله يخشى هؤلاء الضعفاء، ويعمل لهم ألف حساب، ومستعد أن يتنازل، فعلى المسلمين أن يثبتوا وإن كانوا ضعفاء، فإنهم على الحق، والله معهم، وإذا ثبتوا فإن هذا يزلزل كيان الكافرين.

قعد القرشيون بكل ما لهم من تاريخ وقوة وجنود وأحلاف، قعدوا مع الجماعة الضعيفة المستضعفة التي كانت تعيش عندهم وخرجت من ديارهم وذهبت إلى المدينة المنورة، وجاءت الآن للعمرة بسلاح المسافر، قعدوا من أجل الصلح في مصلحة الطرفين، ويلتقون في منتصف الطريق كما ذكروا، هذا الصلح يحمل إيجابية واضحة، ولكنه في نفس الوقت يحمل سلبية لا بد أن يفقهها المسلمون، فالإيجابية الهامة: أن كل طرف أصبح معترفاً بالآخر، فإذا كنت أنت جماعة لا دولة وتم معك الصلح فهذه إيجابية كبرى جداً؛ لأنها بداية الاعتراف بأنك أصبحت قوياً متكافئاً، فقريش لا تحتاج لاعتراف الرسول بها؛ لأن قريشاً صار لها ستمائة سنة وأكثر قبيلة معترف بها وسط الجزيرة العربية بكاملها، بل ووسط العالم، ولها علاقات مع بعض الدول في العالم، أما جماعة المسلمين فلا يعترف بهم أحد لا قريش ولا غيرها؛ لأنها جماعة ناشئة ضعيفة مستضعفة، فإذا اعترفت بها قريش فهذه من أعظم إيجابيات صلح الحديبية، ونحن الآن في أيامنا رأينا عندما نجحت حماس في انتخابات فلسطين ماذا حصل؟ دعتها بعض الدول العالمية للحديث والتحاور والتفاوض، منها: روسيا مثلاً، وروسيا تعتبر من أقطاب العالم ومن أقوى دول العالم، ومع ذلك دعت حركة حماس لسماع الرأي ولتبادل المشورة في بعض الأمور، وهذا في حد ذاته اعتراف بحماس، وهذا الكلام أغضب اليهود جداً؛ لأن هذه المفاوضات فيها اعتراف ضمني بشرعية حماس وبقوة حماس، فهذا الذي كان يعيشه الرسول صلى الله عليه وسلم أيام صلح الحديبية، فكون قريش تجلس على طاولة المفاوضات معه فهذا اعتراف أمام الجميع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح زعيماً لدولة معترف بها في الجزيرة العربية، وهذا انتصار كبير وفتح مبين فعلاً.

أما السلبية التي تكون في هذا الصلح: أنه إذا جلست قوتان للتفاوض وللصلح فلا بد أن يتنازل كل طرف عن شيء، وهذا يحتاج إلى وقت من أجل أن نفهمه، فحين تحصل مفاوضات بين مجموعة من المسلمين وبين دولة قوية في العالم لا بد أن نعرف بالضبط حدود التفاوض، ونعرف بالضبط ما هو الذي يمكن أن نسمعه ويغضبنا ونمرره، والذي يمكن أن نسمعه ويغضبنا ولا يمكن أن نمرره؟ فالرسول صلى الله عل