لقد خرج في هذه العمرة المباركة ألفان من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من غير النساء والصبيان، يعني: كل من شهد الحديبية خرج إلا من استشهد، وخرج معهم أيضاً آخرون، فالصحابة الذين كانوا في الحديبية هم ألف وأربعمائة، وفي هذا الوقت خرج ألفان، وخرجوا بالسلاح الكامل في موكب مهيب، ومع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان متفقاً مع قريش أنه لا يدخل مكة إلا بسلاح المسافر فقط، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمن من غدر قريش، فخرج بالسلاح الكامل والعدة الكاملة، بالرماح وبالسهام والدروع وبكل شيء وكأنه مستعد لحرب، لكنه سيترك كل هذه الأشياء خارج مكة ليدخل مكة بسلاح المسافر فقط، وفاء لعهده صلى الله عليه وسلم، فجمع بين الأمرين: الأخذ بالأسباب والحماية لهؤلاء الخارجين إلى مكة المكرمة للعمرة، وفي نفس الوقت يدخل بعهده مع قريش إلى مكة بسلاح المسافر، وأحرم صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة (أبيار علي)، وظل يلبي من ذي الحليفة إلى أن وصل إلى مكة المكرمة، عشرة أيام تقريباً من التلبية المتواصلة، ووصل إلى مكة، وهذه اللحظة من أعظم لحظات السيرة النبوية؛ فهي لحظة مهيبة فعلاً، بعد سبع سنوات كاملة من الهجرة، وبعد أن ترك الرسول صلى الله عليه وسلم أحب البلاد إليه يعود الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى بلده مكة.
شتان بين حال المسلمين منذ سبع سنوات وحالهم الآن، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة منذ سبع سنوات مهاجراً يترقب ويستخفي بنفسه ويختبئ هنا تارة وهنا تارة، يخفي آثاره قدر ما يستطيع، واليوم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معلناً للجميع أنه داخل، وليس هذا الإعلان لأهل مكة فقط، بل لأهل الجزيرة جميعاً، بل لعله للعالم أجمع.
خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة منذ سبع سنوات هو وصاحبه الصديق وعامر بن فهيرة والدليل المشرك عبد الله بن أريقط، أربعة نفر لا يكاد يراهم أحد، والآن يعود الرسول عليه الصلاة والسلام بألفين من الرجال دون النساء والصبيان، في مظاهرة إيمانية عظيمة، وتلبية تقطع صمت الصحراء، تُعلن لكل الخلق أن: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، حقاً لا شريك لك، حقاً إن الحمد كله لله، وحقاً إن الملك كله لله، والدليل أن هذه العمرة التي نتحدث عنها قبل سبع سنوات منها يخرج أهل مكة جميعاً يبحثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل بقعة ليقتلوه، والآن خرج أهل مكة جميعاً إلى جبال مكة وإلى أودية مكة يفسحون الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدخل مكة معتمراً ملبياً، رافعاً رأسه، محاطاً بكوكبة من المسلمين المسلحين بالسيوف في أعظم تشريفة رأتها مكة في كل تاريخها، اكتفى أهل مكة بالمراقبة له ولأصحابه وهم يؤدون شعائر العمرة على طريقة المسلمين.