[تحقيق مبدأ الشورى بين أفراد الجيش المؤمن]
نقلت الاستخبارات الإسلامية خبرين في منتهى الأهمية: الخبر الأول: هروب القافلة، الخبر الثاني: جيش مكة على مقربة من بدر، فالوضع خطير جداً، وإعداد المسلمين كان قوياً جداً بالنسبة لقافلة تجارية، لكن لاشك أنه ضعيف جداً بالنسبة لجيش نظامي خرج مستعداً للقتال، فلا يوجد سوى اختيار من اثنين: إما الرجوع إلى المدينة وتجنب القتال، وإما التقدم إلى بدر والصدام المروع، ومن هنا نركز على هذه القضية؛ لأن كل موقف سيحمل ملمحاً من ملامح النصر، وسيكون فيه إشارة إلى عامل من عوامله.
إن كل صفات الجيش المنتصر تجمعت في جيش بدر، وأي جيل مسلم يريد أن ينتصر لا بد أن يعرف صفات جيل بدر جيداً، ولا بد أن يستوعب سورة الأنفال جيداً، فهي سورة تحدثت عن غزوة بدر، والرسول صلى الله عليه وسلم أمامه خياران: الرجوع أو القتال.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد القتال؛ لأن الرجوع له آثار سلبية كبيرة، فهو سيهز جداً كيان المسلمين، وسيضيع مكاسب سرية نخلة، وسيشجع الكفار على التمادي في الحرب على المسلمين، فكلما رجع المسلم خطوة احتلها عدوه، ولا يستبعد مطلقاً إذا رجع الجيش المسلم أن يستمر الجيش المكي في المسير ويغزو المدينة، وعندئذ سيكون الخطر أكبر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس قائداً ديكتاتورياً كـ أبي جهل.
فالقائد الديكتاتوري يبرز فهمه دائماً لمن يقودهم، والذين من حوله يحاولون أن يفهموه أن رأيه فقط هو الرأي الصحيح، وأنه يفهم في كل شيء؛ لذلك فعليه ألا يضيع وقته ووقت شعبه في الاستشارات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن كذلك، فمع أنه أحكم البشر كان يستشير أمته في كل القضايا التي لم ينزل فيها وحي، فإذا كان هناك أمر من الله في قضية من القضايا فإنه لا يجوز للمسلمين أبداً أن يتشاوروا في تطبيق الأمر من عدمه، وإذا لم يكن هناك أمر من الله فلابد من الشورى، وكل تحركاته صلى الله عليه وسلم كانت بالشورى، لما خرج من المدينة للقافلة خرج بالشورى، ولما قرر أن يحارب لم يحارب إلا بشورى، وسنرى للشورى مواضع كثيرة بعد ذلك في بدر وفي غير بدر.
إذاً: نستطيع أن نقول ببساطة: إن من أهم ملامح الجيش المنتصر أن يكون جيشاً يعظم الشورى الحقيقية وليست الشورى التمثيلية الهزلية على الشعب، بل شورى حقيقية تهدف إلى قرار يصلح الأمة، وهكذا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً كبيراً تبادل فيه الرأي ليس فقط مع قادة الجيش ولكن مع عامة الجيش، فقام المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق وأيد الحرب ضد الكافرين، وكذلك قام المستشار الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال نفس الكلام، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه وقال كلاماً رائعاً علق عليه عبد الله بن مسعود.
قال: شهدت من المقداد بن عمرو مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، قال: (يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إن ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك حتى نبلغه).
سر الرسول سروراً عظيماً بكلام المقداد، ولكن ما زال يطلب الاستشارة ويقول: (أشيروا علي أيها الناس! أشيروا علي أيها الناس!)، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة يكتفي باستشارة أبي بكر وعمر، ويقول: لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما، لكن هنا ما زال ينتظر استشارة الأنصار، فإنه لم يسمع رأي الأنصار بعد، فالأنصار قبل ذلك في المدينة أعلنوا موافقتهم على الخروج معه للقافلة، لكن الآن ليس هناك قافلة، وإنما قتال مع جيش كبير، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لو أمر الأنصار لأطاعوه فوراً، فهم في أعلى درجات الإيمان رضي الله عنهم أجمعين.
لكن الرسول يذكر بيعة العقبة الثانية، وفيها بايع الأنصار على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قدم إليهم في المدينة، ولم يبايعوه على الحرب خارج المدينة، والأمر ليس فيه تكليف إلهي الآن فيسمع الجميع ويطيع، ولكن فيه الشورى، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يكره الأنصار على القتال، فشتان بين من يقاتل وهو مكره، ومن يقاتل وهو راغب في الجهاد، ولا ننسى أن الأنصار ثلثا جيش المسلمين، فهذا الطلب المتكرر للاستشارة: (أشيروا علي أيها الناس! أشيروا علي أيها الناس!)، لفت نظر سيد الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وكان حامل لواء الأنصار حينها، فقام وقال: (لكأنك تريدنا يا رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، قال سعد: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله! لما