للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وقائع بيعة العقبة الثانية]

بدأ الاجتماع الذي سيغير من خارطة الأرض كلها، كان وقت الاجتماع قصيراً مع أن أحداثه كانت كبيرة.

وهذا الاجتماع سيغير خريطة الأرض، ولابد لكل منا أن يسأل نفسه: أين كان أعداء الله وقت أن تم هذا الاجتماع المهيب؟ أين كان أبو جهل والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهم من قادة قريش؟ أين كان أحبار اليهود: حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما؟ أين كان كسرى وقيصر؟ كل هؤلاء كانوا نياماً، كلهم كانوا غافلين، لا أحد كان يعرف بهذا الاجتماع الذي سيتم، مع أن كلهم بعد ذلك عروشهم ستتزلزل نتيجة هذا الاجتماع، هذا -والله- تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى، شيء لا يتخيله عقل، مجموعة بهذه القلة وهذا الضعف، في مثل هذا المكان الذي لا يرى على خارطة الأرض، وبعد ذلك سيكون هذا الاجتماع سبباً في تغيير كل شيء على الأرض في غضون سنوات قلائل.

بدأت مراسم المباحثات شديدة الأهمية، كانت كلمة الافتتاح للعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما زال مشركاً، وواضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مطمئناً له، وأتى به لأداء دور سياسي معين، ما هو هذا الدور؟ أولاً قد نستغرب من شيء كهذا، لماذا يحضر مشركاً في مباحثات بهذه الخطورة؟ هذا الدور هو لتوضيح مكانة بني هاشم في مكة، ولإعلام الأنصار أنهم سيأخذون الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن له قبيلة كبيرة ذات شرف، فيحرصون على أن يكونوا هم البديل الحقيقي لبني هاشم، وكون العباس مشركاً يعطي بُعداً سياسياً آخر، وهو أن بني هاشم مؤمنهم وكافرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العكس من ذلك لو جاء حمزة فقد يقع في أنفسهم أنه أتى لأنه مؤمن لا ليمثل بني هاشم، وسنرى في كلام العباس رضي الله عنه ما يثبت هذه التحليلات.

قال العباس: يا معشر الخزرج! -والعرب كانت تسمي أهل المدينة كلهم خزرجاً، سواء كانوا من الأوس أو الخزرج -إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.

هنا انتهت افتتاحية العباس، وكانت سريعة وموجزة، وقد وضح من خلالها الدور الذي أتى من أجله.

ثم جاء دور الأنصار في الكلام، وكانوا في منتهى الأدب، فقد كانت هناك ردود كثيرة ممكن أن تقال للعباس، ويدخلون معه في جدل عقيم، على سبيل المثال: يمكن أن يقولوا له: تقول: إنه في عز وفي منعة وهو في جوار المطعم بن عدي من بني نوفل، ولم يقف بجواره أحد من بني هاشم؟ أو أن يقولوا: أنت تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن ينحاز إلينا، وما فعل ذلك إلا لأنه أوذي وضرب وظلم ورجم بالحجارة، وسب وألقي التراب على رأسه، وألقيت عليه رحم الجزور، وأنتم تنظرون إليه كغيركم، أين كنتم وهو يطوف بالقبائل يبحث عمن ينصره وعلى مسمع منكم ومرأى، والقبائل كلها ترفضه؟! بل ليتكم ساكتين فحسب، فإن أبا لهب عمه كان يمشي وراءه ويقول: لا تصدقوه إنه صابئ كذاب، أين كنت أيها العباس الهاشمي العزيز والرسول صلى الله عليه وسلم يعاني كل هذه المعاناة أمامك وأمام كل بني هاشم؟ كل هذا كان من الممكن أن يقال أو أكثر منه، لو كانت هذه المباحثات سياسية بحتة، يريدون أن يحققوا فيها أكبر المصالح، ويستغلوا الظرف الحرج الذي وقع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الوضع في الأنصار لم يكن هكذا أبداً، لم تكن المباحثات سياسية دنيوية، بل كانت إيمانية بحتة، فالأنصار جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليكونوا أنصاره وأتباعه، وطوع إرادته، جاءوا وهم يعلمون أن المنة والفضل لله ولرسوله، وأن العمل والبذل عليهم وعلى المسلمين جميعاً، فكانوا يفهمون دورهم جيداً، من أجل ذلك قالوا في أدب رفيع: قد سمعنا ما قلت -يكلمون العباس رضي الله عنه-، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.