النقطة الثالثة والأخيرة في التعليق على هذا الحدث: أنه إذا كنا قد طلبنا من الجنود أن يعذروا القيادة في قراراتها، وأن تتصف ردود أفعال الجنود بالثقة في اختيار القائد، فإننا في نفس الوقت نطلب من القيادة أن تعذر جنودها عند ظهور بعض علامات الغضب، أو عدم الرضا من بعض القرارات غير المفهومة لعموم الناس، وأن يتسع صدر القيادة لتستوعب الجنود وهم في حالة نفسية سيئة، وأن تقبل منهم بعض الأخطاء، وأحياناً تكون هذه الأخطاء كبيرة جداً، ليس هناك مانع، لكن ننظر إلى ملابسات هذا الخطأ وفي أي ظرف حصل وممن حصل، وخير مثال على هذا الأمر في صلح الحديبية: ما رأيناه من رسولنا صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الصحابة، وخاصة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أصر على المجادلة مع الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة، ومع ذلك لم يعنته رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة اعتراضاته، ما قال له: هذا الكلام وهذا الحوار بهذه الطريقة لا يصلح أن يكون معي وأنا رسول صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم عذره؛ لأنه يقدر موقفه ويعلم تاريخه ويعلم واقعه، وهذا الخطأ الذي حدث منه -وإن كان عظيماً- فقد قاسه على سيرته الجميلة رضي الله عنه وأرضاه، فسيرة عمر كلها تضحيات وكلها طاعة وجهاد في سبيل الله، وكلها بذل وعطاء، حتى إننا وجدناه صلى الله عليه وسلم يرسل لـ عمر خاصة بعد نزول سورة الفتح ليطمئن قلبه، فقرأ عليه سورة الفتح بكاملها من أجل أن يقول له: إن قرار الصلح هو القرار الأصوب، ولما سأله سيدنا عمر بن الخطاب:(أفتح هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم)، اكتفى بذلك ولم يذكره بخطئه السابق، وما قال له: ما كان ينبغي أن تقول كذا وكذا، وحتى بعدما ظهرت خيرات صلح الحديبية بعد ذلك لم نسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام استدعى عمر بن الخطاب وقال له: ألم أقل لك إن ذلك خير؟ أرأيت كذا وكذا؟ ما قال له هذه الكلمات، بل إنه عليه الصلاة والسلام قبل منه الخطأ بسعة صدر؛ لأنه يقدر الظروف التي حدث فيها ذلك الخطأ، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان رحيماً بـ عمر وبسائر أصحابه صلى الله عليه وسلم تمام الرحمة، وكان مقدراً حبهم للإسلام تمام التقدير، هذه هي القيادة الرشيدة.
خلاصة الأمر: أن الأمة الناجحة حقاً هي الأمة التي يشعر فيها الجندي أنه قريب جداً من القائد، يحبه ويقدره ويطيعه ويثق به تماماً، ويشعر القائد كذلك أنه قريب جداً من جنوده، يحبهم ويقدرهم ويثق بهم، وهذه الثقة والتسامح والمحبة المتبادلة بين القائد وجنوده من أقوى الأسباب التي تقوم عليها الأمم.
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.