للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعلم الحكمة في التعامل من خلال دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم]

القاعدة الرابعة والأخيرة التي نضعها في عقولنا أثناء دراسة هذه السيرة الشريفة: أن نتعلم الحكمة من خلال دراستنا لجزئيات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيفية وضع الأمر في نصابه، كيف تفضل رأياً على رأي آخر؟ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الحكمة بعينها، إذا اختار رأياً ما، فهذا هو الرأي الحكيم، إذا فعل فعلاً ما، فهذا هو الفعل الحكيم، هكذا دراسة السيرة تعلمنا الحكمة في أرقى صورها.

مثلاً: حكمته صلى الله عليه وسلم في فن امتلاك القلوب، كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكسب قلوب الذين يتعامل معهم؟ فهو صلى الله عليه وسلم لم يكن يمتلك قلوب أصدقائه فقط، بل كان يمتلك قلوب أعدائه أيضاً، وهذه حكمة جديرة بالتأمل، والوقوف معها طويلاً.

حكمة أخرى في منتهى الأهمية، وهي حكمة المرحلية، والاعتراف بما يسمى بفقه الواقع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في فترة من فترات حياته يطوف بالكعبة، فما رفع معوله ليكسر صنماً، وكان بها ثلاثمائة وستون صنماً، ثم يأتي وقت آخر على الرسول عليه الصلاة والسلام لا يقبل فيه بوجود صنم واحد في جزيرة العرب، وعندما يفتح مكة يبعث خالداً إلى الطائف لكي يكسر الأصنام التي هناك، فهذا وضع وهذا وضع، فلا يصح أن تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عمل كذا في يوم كذا أو في سنة كذا دون دراسة الملابسات والظروف التي كانت حول الموقف الذي عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلام هذا لن يستقيم إلا عن طريق دراسة السيرة.

وعاش الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاماً بعد البعثة وفيها الرايات الحمر المعلقة على خيام الزانيات، فهناك من تعلن عن نفسها أنها تزني، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعيش بينهم، ولم يحطم خيمة من خيام الرايات الحمر في وقت من الأوقات، ولكن يأتي ظرف آخر لا يتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عن إقامة الحد على امرأة واحدة زنت، فإن الغامدية لما زنت أقام الرسول صلى الله عليه وسلم الحد عليها؛ لأنها زنت، فهذا وقت وهذا وقت.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن يعاهد اليهود، وفي زمن آخر يحاربهم، فلا يصح أن تقول: أنا أعاهد اليهود كما عاهدهم، من غير دراسة الظروف والملابسات التي كانت حول تلك المعاهدات في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأت هذا وقت الحرب، ولا يجوز أن أحارب في وقت معاهدة، لن نعرف هذا إلا عن طريق دراسة السيرة.

كذلك الحكمة في اختيار القرار المناسب في الوقت المناسب، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكف يده يوماً عن القتال، ويوماً يقاتل من قاتله، ويوماً يقاتل كل الكفار.

كان يمر الرسول صلى الله عليه وسلم على آل ياسر - ياسر وسمية وعمار - وهم يعذبون تعذيباً أليماً شديداً أدى إلى قتل ياسر وسمية رضي الله عنهما، يمر عليهم وهم يعذبون فيكتفي صلى الله عليه وسلم بقوله لهم: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة) لم يرفع صلى الله عليه وسلم سيفاً ليدفع به أبا جهل الذي كان يعذبهما، ولم يأمر أحداً من شبابه أو من أتباعه الأقوياء كـ الزبير بن العوام أو سعد بن أبي وقاص أو فرسان الصحابة الأشداء في ذلك الزمن لقتل أبي جهل، أو أبي سفيان، أو أبي لهب، وعنده مبررات كثيرة تدفعه لذلك، كأن يقول: من أجل أن تسير الدعوة في مكة، ولكن لم يفعل صلى الله عليه وسلم، لكن في يوم آخر من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم سير جيشاً كاملاً لحرب اليهود في بني قينقاع لقتلهم رجلاً مسلماً، بعد كشف عورة امرأة مسلمة واحدة من قبل يهودي.

تخيل الفرق الضخم بين الموقفين! وسير الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً لحرب الروم، وهي دولة في منتهى الضخامة في ذلك الزمان؛ لأنهم قتلوا رجلين من المسلمين، لكن هذا زمن وزمن مكة آخر.

أول العهد في المدينة غير آخر العهد في المدينة، غزوة بدر غير غزوة أحد.

انتبه وأنت تدرس كل موقف إلى الظروف المحيطة بذلك الموقف، فإنك لو فعلت ذلك ستستطيع أن تفهم ما يسمى بفقه الواقع، أو بحكمة المرحلية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكمة أخرى أيضاً في غاية الأهمية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، هي التدرج في التربية، والتدرج في تغيير المنكر، مثل: تحريم الخمر حرم بالتدرج، وليس مرة مُنع الناس عن الخمر، كذلك التدرج في تحريم الربا، وفي أمر الناس بالجهاد في سبيل الله، كل هذا أخذ مراحل ومراحل طويلة، وكل مرحلة نصل إليها نبني عليها مرحلة أخرى.

وهناك حكمة أخرى رائعة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي حكمة الوسطية، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:١٤٣]، لا إفراط ولا تفريط.

ما هو تعريف الإفراط؟ وما هو تعريف التفريط؟ في كل جزئية من جزئيات الحياة أنت لك تعريف، وأنا لي تعريف، وذ