هذا النشاط يحتاج إلى وقفة وتحليل ودراسة، ما معنى أن تكون دعوة الصديق بهذه الروعة؟ لماذا استُجيب للصديق بهذه الصورة؟ أعتقد أن المسألة ليست مجرد حركة، فهناك كثرة من المسلمين ومن الدعاة تتحرك في سبيل الله، لكنها تنفر الناس من دين الله عز وجل، فهم يتحركون وعندهم صدق في الحركة، لكن الأسلوب أو الهيئة أو الطريقة لا تناسب الوضع والشكل الذي كان عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لبعض المسلمين:(يا أيها الناس! إن منكم منفرين) أي: بعض الدعاة ينفرون الناس من الإسلام عكس المطلوب تماماً، فما الذي جعل الناس تستمع لكلام الصديق رضي الله عنه؟ أولاً: كان الصديق -كما يقول طلحة بن عبيد الله - رجلاً سهلاً محبباً موطأ الأكناف، أي: ليّن الجانب، وببساطة ليس بالفظ ولا بالغليظ.
هذه أول سمة: أن تكون لين الجانب مع الذي تدعوه، واترك العنف.
ثانياً: كان تاجراً ذا خلق واستقامة، وهذا شيء في منتهى الأهمية.
المال فتنة، وكثير من التجار يخسرون الناس بسبب التجارة، لكن الصديق كان عكس هذا تماماً، كان يكسب الناس بسبب التجارة كان تاجراً صدوقاً، بل تاجراً صديقاً، كريماً رحيماً، فيه رأفة وأدب وخلق حسن، فكيف يمكن أن يكون حب الناس لإنسان يتصّف بهذا، يعطي الناس ولا يأخذ منهم؟ ثالثاً: يقول طلحة: وكنا نألفه ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش وحفظه لأنسابها.
أي: أن الصديق كان عالماً بعلم زمانه وهو علم الأنساب، والطبقة المثقفة في مكة كانت تحب أن تجلس معه وتسمع منه الأنساب، أي: أن الصديق ما كان يكتفي بالبسمة فقط أو المال، وإنما كان يعطي علماً أيضاً، وكان من أدبه رضي الله عنه أنه كان لا يطعن في أنساب أحد، مع علمه بكل نقيصة في كل نسب، فهذا من حسن خلقه رضي الله عنه وأرضاه، كيف لا يستجيب الناس لدعوته وهو بهذه الصفات؟ إذاً: هذه الدعوة لم تأت من فراغ، ولم تكن مصادفة أن يستجيب هذا العدد العظيم من عمالقة الإسلام للصديق رضي الله عنه.
إذا أردت أن تكون داعية فادرس سيرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهو من خير الدعاة بعد رسول الله.
وهنا نقف وقفة مع أنفسنا ونسأل: أتى الصديق بهؤلاء ونحن بمن أتينا؟ أجب على هذا السؤال بينك وبين نفسك، وليس بالضرورة أن تأتي بغير المسلمين إلى الإسلام، أو برجال أمثال عثمان والزبير لكن أين الحركة للدين؟ هل وصلت دعوتنا إلى المسلمين غير الملتزمين بالإسلام بنفس حمية وحماسة الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ هل أتينا إلى المسجد بمسلم لا يعرف طريق المساجد؟ هل دفعنا بمسلم إلى قراءة القرآن بعد أن هجره السنوات الطوال؟ هل شرحنا لمسلم حال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وقد نسيهم أو تناساهم؟ هل هذّبنا من أخلاق أبنائنا وأصحابنا وشركائنا وزبائننا وجيراننا؟ هل وصلنا بالدعوة إلى كل من نعرف؟ هل؟ هل؟ أسئلة كثيرة جداً لمجالات من العمل لا تحصى ولا تعد، أبواب الدعوة لا حصر لها، المهم أن يتولد في القلب شعور بأنك أنت وحدك الذي تحمل هم الإسلام كله على كتفك، تشعر أنك أنت المسئول، وأن القضية قضيتك، وأن المهمة مهمتك.
هذا هو الدرس الذي نأخذه من الصديق، ولو استمعنا للقصة لمجرد التمتع بها لن نفهم الغرض من هذه المجموعة من الدروس: كيف نبني أمة؟