[حال الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية]
كان هذا هو الوضع في بلاد العالم المختلفة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته، أما عن الجزيرة العربية فقد كانت تعيش حالة من الوثنية المفرطة، مع إيمان هؤلاء الناس بالله عز وجل، إلا أنهم اتخذوا إليه شفعاء ووسطاء، كما قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣]، ومضت الأيام وأصبحوا يعتقدون أن هؤلاء الشفعاء -أي: الأصنام- تملك قدرة ذاتية على أن تنفع أو تضر، فأصبحوا يتوجهون إليها مباشرة بالعبادة، وكان لكل قبيلة صنم، فمكة مثلاً كان أعظم أصنامها: هبل، والطائف أعظم أصنامها: اللات وهكذا.
وأحياناً لكل بيت صنم، وكان هناك تجار للأصنام وصناع للأصنام، تجد من يبيع آلهة في داخل البيت الحرام، بل كانت الكعبة نفسها حولها (٣٦٠) صنماً، وهي أشرف بقعة على الأرض، ومما يذكر كمثال على أن لكل بيت صنماً أن عمرو بن الجموح رضي الله عنه كان في جاهليته يعبد صنماً من الخشب صنعه بيده.
أما الأجواء الأخلاقية في جزيرة العرب كانت شنيعة، كان شرب الخمر متفشياً تفشياً كبيراً، حتى كتبت فيه أشعار عظيمة، ووصفت مجالسه بأدق التفاصيل، مع أنه كان يؤدي إلى كثير من النزاع بين الناس.
وكان الميسر أيضاً متفشياً، وكثيراً ما أورث البغضاء والشحناء بين الناس، من أجل هذا قال الله سبحانه وتعالى عنه في القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة:٩١].
وكان الربا من المعاملات الأساسية في جزيرة العرب، وكانوا يقولون كما أخبر الله عنهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٥].
أما الزنا فكانت له صور بشعة في المجتمعات العربية قبل الإسلام، وتصف السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها -كما جاء في صحيح البخاري - أنواع النكاح في الجاهلية: النوع الأول: هو النوع المعروف الذي عليه نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، وهذا الزواج الطبيعي كان أحد صور الزواج.
النوع الثاني: تقول السيدة عائشة: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها -أي: من الحيض- اذهبي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها -أي: من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، يعني: يبعث امرأته من أجل أن يجامعها رجل من أشراف مكة، وما يمس امرأته إلى أن يتأكد أنها حملت من الرجل الغريب- فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد.
هذا النكاح كان يسمى بنكاح الاستبضاع، أين مروءته وغيرته؟! تنعدم إلى درجة أنه يبعث امرأته إلى هذا الفعل الشنيع، وهذا قانون يوافق أهواء الأسياد.
كانوا يحيون على هذه المفاسد، لذا لما أتى الإسلام وحرم عليهم هذه الأمور، كان العداء بينهم وبين الإسلام؛ لأنه يحرم عليهم هذه الشهوات وهذه المفاسد.
النوع الثالث: تقول السيدة عائشة: (هو النكاح الذي يجتمع فيه الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت وهو ابنك يا فلان، وتختار واحداً من الناس فتلحقه به، ولا يستطيع أن يمتنع الرجل.
النوع الرابع والأخير في أيام الجاهلية كما تقول السيدة عائشة: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها -وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، وهي مشهورة في التاريخ بالرايات الحمر، فمن أرادهن دخل عليهن- فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها اجتمعوا لها، ودعوا لها القافة -وهم الرجال الذين يستطيعون تمييز الوالد والولد عن طريق الشبه- ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به.
يعني: التصق به ودعي على أنه ابنه، ولا يمتنع من ذلك.
تقول السيدة عائشة: فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.
كانت هناك عادة أخرى من أبشع العادات في جزيرة العرب: وهي وأد البنات، يعني: دفن البنت وهي حية، وكان يفعل ذلك لأسباب كثيرة أهمها خشية الفقر، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:٣١] يعني: خشية الفقر.
وأحياناً خوف العار، وأحياناً لعيوب خلقية أو من أجل اللون.
ومنها: ادعاء أن الملائكة بنات الله، سبحانه عما يقولون! فيقولون: ألحقوا البنات به فهو أحق بهن، تعالى الله عن ذلك، يقول الله عز وجل عنهم في كتابه الكريم: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:٨ - ٩].
كذلك العصيبة القبيلة والحروب المستمرة بين القبائل كانت أمراً طبيعياً، والإغار