[وقفة مع لحظة التمكين لرسول الله صلى الله عليه وسلم]
قبل أن نعرف ما الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، أريد أن أقف وقفة وأقول: إن لحظة التمكين قد تكون قريبة جداً، راجع معي الفترة التي سبقت الهجرة إلى المدينة المنورة بثلاث سنوات.
قبل ثلاث سنوات من الهجرة كان عام الحزن الذي مات فيه أبو طالب والسيدة خديجة رضي الله عنه وأرضاها، وأظلمت مكة تماماً، وأُغلق فيها باب الدعوة، حتى اضطر الرسول عليه الصلاة والسلام لأول مرة في تاريخه أن يخرج من مكة المكرمة سعياً وراء إيصال الدعوة إلى غيرها؛ لأنه لم يجد أحداً في مكة المكرمة سيؤمن في تلك اللحظة، وخرج صلى الله عليه وسلم في مشوار طويل شاق جداً إلى الطائف، وتعلمون جميعاً ما حدث في الطائف، وخرج منها صلى الله عليه وسلم وقد رُمي بالحجارة وأُلقي التراب فوق رأسه وسُب بأقبح الألفاظ، ودخل مكة بعد ذلك في جوار مشرك وهو مطعم بن عدي، والمحلل للوضع يجد أنه من المستحيل حقاً في عرف أهل الدنيا وفي حسابات المادة أن تقوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين المضطهدين المشردين المعذبين في داخل مكة المكرمة دولة، ولو بعد عشر أو عشرين أو ثلاثين أو مائة سنة.
وراجع مرة أخرى الفترة المكية لتعرف صعوبة هذه الفترة، لا يوجد فيها أي أنصار من أي نوع، رفضت مكة الإيمان، ورفضت الطائف الإيمان، ورفضت كل القبائل التي أتت في العام العاشر والعام الحادي عشر من البعثة جميعاً الإيمان بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولم يقبل من كل الذين دعاهم صلى الله عليه وسلم الإيمان إلا ستة من الخزرج في آخر العام الحادي عشر من البعثة، كانت هذه الأحداث قبل الهجرة بسنتين، وفي غضون سنتين أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم قائداً لدولة، ومع أن الدولة بُقعة صغيرة لا تُرى على خريطة العالم في ذلك الوقت في المدينة المنورة، لكن أصبحت له دولة وأصبح ممكناً وزعيماً، وأصبح الجميع يسمع له ويطيع.
سبحان الله! حصل هذا بدون أي نوع من الشواهد، لم نكن نرى أي شاهد، لكن إذا قارنت هذا الوضع بما نحن عليه الآن في عصرنا هذا فإنك ستجد أن الشواهد لإقامة الأمة الإسلامية كثيرة جداً، راجع ثلاثين سنة أو أربعين سنة مضت كيف كان وضع المسلمين ووضعهم حالياً بفضل الله؟ كم من الناس يصلون الآن في المساجد؟ ففي الستينات لم يصل من الناس في المساجد إلا عدد قليل نادر، وتجد المصلي كبيراً جداً في السن، وانظر الآن إلى المساجد بحمد الله، فإنك ستجد عدد المصلين هائلاً وبالذات من الشباب.
كم من المحجبات والملتزمات بالزي الشرعي؟ كم من الدعاة أصحاب الفهم الصحيح الشامل للإسلام انتشروا في بقاع الأرض بكاملها؟ كم من الهيئات تتبنى الآن شئون الإسلام؟ بل انظر إلى كم من المتسلقين الراغبين في السيطرة على أفكار الناس يلوحون بالإسلام وينافقون المسلمين؟ فمن ثلاثين إلى أربعين سنة لم يكن هناك شيء اسمه نفاق للإسلام؛ لأن الإسلام كان ضعيفاً، أما في هذا الوقت فإن الجميع ينافق المسلمين، وإذا رأيت الرجل ينافق الإسلام أو ينافق المسلمين فاعلم أن الإسلام قوي وقاهر، وأن له حضوراً وهيبة وعظمة في قلب هذا الذي ينافق؛ ولذلك ينافقه، وبفضل الله الآن لو راجعنا قلوب ومشاعر العالم الإسلامي بصفة عامة تجد فيها انسياقاً طبيعياً فطرياً للإسلام.
أيضاً عند الانتخاب مثلاً تجد الناس يختارون من رفع لواء الإسلام وشعاره، وإن كانوا لا يعرفون اسمه؛ وذلك لأنه يتبنى الفكر الإسلامي الذي يحبه الناس، فهذه كلها علامات وشواهد على قرب قيام الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية بإذن الله.
أما أيام الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يكن هذا موجوداً في فترة عام الحزن ولا في العام الذي تلاه، ومع ذلك قامت الأمة الإسلامية، وأقيمت دولة إسلامية تقيم شرع الله عز وجل في غضون ثلاث سنوات فقط.