[موقف الأنصار من توزيع غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم]
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الرابع عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تحدثنا عن توزيع غنائم حنين، وعن تقسيم أربعة أخماس الغنيمة على الجيش بكامله، ثم توزيع الخمس المتبقي على المؤلفة قلوبهم من طلقاء مكة وزعماء مكة وزعماء القبائل العربية المختلفة، وكان كما رأينا توزيعاً سخياً بلغ مائة من الإبل للبعض، وتجاوز هذا الرقم للبعض الآخر، وذكرنا علة ذلك وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد استقرار الدولة الإسلامية، ووازن بين مصلحة هذا الاستقرار، وبين مفسدة حرمان المجاهدين الذين بذلوا الجهد، وكانوا سبباً مباشراً في النصر يوم حنين، فوجد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الموازنة أن استقرار الدولة الإسلامية أثقل، ولذلك أعطى المؤلفة قلوبهم ومنع السابقين، وتفهم كثير من الصحابة هذا الموقف، لكن هذا التفهم لم يكن من الجميع، بل غضبت مجموعة من الصحابة لهذا الفعل، وشعرت هذه المجموعة أنها حرمت ما تستحقه، بينما أعطي من لا يستحق، فهذه المجموعة من الأصحاب هم الأنصار، غضب كثير من الأنصار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم من الخمس المملوك للدولة، مع أنه أعطى بسخاء مجموعة حديثة الإسلام، ما قدمت شيئاً للإسلام، وما خدمت الدولة الإسلامية خدمة تذكر.
وقبل أن تأخذوا موقفاً من الأنصار، وقبل أن توجهوا اللوم على الأنصار بأي صورة من صور اللوم، فتعالوا بنا نراجع بعض الحقائق التاريخية الهامة: أولاً: على أكتاف الأنصار قامت الدولة الإسلامية الأولى، قبل ظهور الأنصار في الصورة كان المسلمون متشتتين في الأرض، ناس في مكة وناس في الحبشة وناس في غيرها من القبائل، فجعل الله عز وجل الأنصار سبباً في جمع شمل المسلمين، وفي إقامة الدولة الإسلامية، وذلك عندما استضافوا الرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين في مدينتهم، المدينة المنورة.
ثانياً: أخذ الأنصار منذ الأيام الأولى لإسلامهم القرار بمواجهة الأحمر والأسود من الناس، كانوا يعرفون تماماً أن الإسلام يعني: مفارقة العرب قاطبة، يعني: قطع الحبال التي بينهم وبين اليهود، يعني: مواجهة العالم، هكذا كانوا يعرفون، وهكذا أخذوا القرار بمنتهى التشرف القوة.
ثالثاً: أن قيمة المال في عيون الأنصار قليل جداً، بل لعله منعدم، فأحياناً قد لا يرون لأنفسهم حقاً في أموالهم الشخصية، فتجدهم يعطون هذه الأموال للآخرين بطيب نفس، قل أن يوجد مثلهم في البشر، ورأينا كيف كانوا يقسمون الأموال بينهم وبين المهاجرين رضي الله عنهم، بغض النظر عن الحالة المادية للأنصاري الذي ينفق، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في كتابه الكريم، ووصف الأنصار بصفة الإيثار، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:٩]، حتى الفقير من الأنصار كان ينفق في سبيل الله ويؤثر غيره على نفسه وهو محتاج.
هذه هي نفسية الأنصار بشهادة رب العالمين سبحانه وتعالى.
رابعاً: اشترك الأنصار في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا الجانب الأعظم من الجيش في بدء أول مواقع المسلمين، وبدء المسلمين كانوا (٣١٣) أو (٣١٤) والأنصار كانوا يمثلون ثلثي الجيش تقريباً، (٢٣١) من الأنصار، و (٨٣) أو (٨٤) من المهاجرين، واستمر الأمر على ذلك في بقية الغزوات إلا الغزوات المتأخرة التي زاد فيها عدد المسلمين جداً، لكن في الغزوات الأولى كان معظم الجيش من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولديهم من المواقف المشرفة في التاريخ ما لا يحصى، ومن أشهر المواقف موقف أحد، ففي أحد فر بعض المسلمين، وصار إحباط من بعض المسلمين، لكن الثبات كل الثبات كان في جانب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فرأينا في غزوة أحد استشهاد شباب الأنصار حول الرسول صلى الله عليه وسلم الواحد تلو الآخر، كانوا واقفين حوله تسعة، سبعة من الأنصار واثنين من المهاجرين: سعد، وطلحة رضي الله عنهما، مات السبعة كلهم تحت أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه صلى الله عليه وسلم، ورأينا أمثلة سعد بن الربيع وحنظلة وأنس بن النضر وعبد الله بن حرام وخيثمة وعمرو بن الجموح وغيرهم.
وشهداء أحد كانوا سبعين، وكان فيهم (٦٦) أنصارياً، يعني نسبة (٩٤%)، بذل، تضحية، جهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس.
خامساً: أن الأنصار على خلاف