[الهجرة إلى المدينة]
أصبح الوضع مستقراً إلى حد كبير في المدينة المنورة، وأصبحت الصعوبة في مكة، زعماء قريش الآن يعلمون بتدبير إسلامي خفي لشيء هم لا يعلمونه، هنا صدر الأمر الإلهي للرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم للمؤمنين في مكة بأن يهاجروا إلى المدينة، كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر، الضعفاء والأقوياء، الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء، الأحرار والعبيد، كل المسلمين لابد أن يهاجروا إلى المدينة المنورة؛ لأن هناك مشروعاً ضخماً محتاجاً إلى كل طاقة، هناك مشروع اسمه: بناء الأمة الإسلامية.
وبدأت الهجرة، والهجرة لم تكن شيئاً سهلاً، لم تكن عقد عمل أهدي لهم في بلد غني، كانت الهجرة تعني ترك الديار، والأموال، والأعمال، والذكريات.
كانت الهجرة الاستعداد لحرب ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل في كل الأرض، كانت استعداداً لحرب الأحمر والأسود من الناس، هذه هي الهجرة، ولم تكن هروباً، بل استعداداً لتكاليف أشق، ولواجبات أكثر وأعظم.
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة، وانتظر هو فلم يهاجر، لم يكن همه صلى الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه ويؤمن حاله، أو يحافظ على أمواله، كان كل همه أنه يطمئن على حال المسلمين المهاجرين، ليعلمنا أن القيادة ليست نوعاً من الترف أو الرفاهية، بل مسئولية وتضحية وأمانة.
أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أوامره لكل المسلمين في مكة بالهجرة، وليس في مكة فحسب، بل أي مسلم موجود على الأرض كان لابد أن يهاجر إلى المدينة المنورة، إلا من استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره بأن يمكث في مكانه، لسبب من الأسباب.
كان هذا هو الوضع في هذه الهجرة إلى المدينة المنورة، وهو مختلف عن هجرة الحبشة، فليس كل المسلمين هاجروا إلى الحبشة، كما أن طبيعة المكان وظروف المكان تختلف من الحبشة إلى المدينة، كان المهاجرون إلى الحبشة يريدون فقط الحفاظ على أنفسهم؛ لئلا يستأصل الإسلام إذا تعرض المسلمون في مكة للإبادة، لم يكن الغرض هو إقامة حكومة إسلامية في الحبشة أبداً، بل كان المسلمون مجرد لاجئين عند ملك عادل، أما الهجرة إلى المدينة فكان الغرض منها إقامة دولة إسلامية تكون المدينة هي المركز الرئيسي لها.
كانت المدينة صالحة لإقامة أمة إسلامية بخلاف الحبشة فإنها لا تصلح، لأن في الحبشة معوقات كثيرة جداً لبناء الأمة الإسلامية، مثل: اختلاف اللغة والتقاليد، وعدم استقرار الوضع، ولأن الاعتماد في الحبشة كان على رجل واحد فقط وهو النجاشي رحمه الله، فهو ملك لا يظلم عنده أحد، وإذا مات هذا الرجل أو خلع، فإن المسلمين سيصبحون في خطر عظيم، لكن في المدينة الوضع غير هذا، الهجرة لم تكن تعتمد على رجل معين، بل على أنصار المدينة، والجو العام في المدينة أصبح محباً للإسلام، أو على الأقل كان قابلاً للفكرة، ومن ثم كانت الهجرة إلى هناك هجرة جماعية لكل المسلمين.
بدأت الهجرة العظيمة، ووقعت تضحيات مهولة مع إصرار وعزيمة، لكن كانت هناك أشياء كثيرة تخفف من آلام الهجرة، وهو إحساس المسلمين أنهم قاب قوسين أو أدنى من بناء الأمة، وقبل ذلك شعورهم بالمعية مع الله عز وجل، وشعورهم أن قائدهم معهم، وسيهاجر ويضحي ويتعب مثلهم، واستقبال الأنصار لكل من هاجر بحفاوة بالغة، وكأنهم إخوانهم من قديم.
هذه الأشياء كلها كان تخفف كثيراً من آلام الهجرة، ومع ذلك كانت الهجرة صعبة.
قصص الهجرة كثيرة وعظيمة، وحقيقة أن المقام لا يتسع لتفصيلاتها، ويكفي أن كل واحد من المهاجرين قد ترك وراءه شيئاً عزيزاً عليه.
فمثلاً: أبو سلمة رضي الله عنه وأرضاه، هاجر وترك زوجته وابنه في قصة مشهورة مؤلمة، لكن كان أبو سلمة يفهم واجبه، وكذلك كانت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها تفهم دورها، فصبرت سنة كاملة بعيدة عن زوجها، وسنة كاملة بعيدة عن ابنها الذي أخذه زوجها بعد فترة قصيرة عندما هاجر أبو سلمة، ثم بعد سنة كاملة هاجرت إلى زوجها ومعها ابنها الآخر، هاجرت مسافة (٥٠٠) كيلو متر لوحدها، تضحيات مهولة.
وصهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه ترك وراءه كل ثروته، ترك ما جمعه خلال السنين الطويلة، ترك كل رصيده وهاجر إلى المدينة، ترك وظيفته التي كان مستقراً فيها وهاجر وغيره وغيره وغيره، كل قصص الهجرة فيها تضحيات ضخمة.
وفوق أن الصحابة تركوا كل شيء وراءهم، إلا أنه كانت هناك خطورة حقيقية على حياتهم؛ فالكفار لم يكن عندهم أي مانع من قتل أي شخص إذا أمسكوا به، وعلموا أنه مسلم يريد أن يهاجر، بل أرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فما بالكم بأي شخص ضعيف أو حليف، أو أي شخص من قريش؟!