حصار المشركين لبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة وخروجه من بينهم سالماً
عاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته وبدأ يجهز نفسه، ونادى علياً رضي الله عنه، وكان في ذلك الوقت عمره (٢٣) سنة، وأخبره بدوره، وأنه سينام في سريره صلى الله عليه وسلم طوال الليل، ويتغطى ببرد الرسول صلى الله عليه وسلم الأخضر، وفي الصباح يعيد الأمانات لأصحابها.
انتظر الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت حتى الليل، ثم في أول الليل فكر بالخروج والذهاب إلى الصديق، فرأى أن المشركين قد أتوا مبكرين عن الموعد الذي كان يظنه، ورآهم يحاصرون البيت، وعشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس أو المحاكمة، لقد صدر القرار بالقتل، وقد أتوا للتنفيذ مباشرة، فماذا يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يخرج؟ أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأن يخرج من وسط المشركين، وأن يخرج أمام الناس كلهم، ولن يراك أحد منهم؛ فإن الله عز وجل سيأخذ أبصارهم، ستعمى الأبصار كما عميت قبل ذلك البصائر.
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم أمام كل الناس ليلة (٢٧) صفر سنة (١٤) من النبوة، خرج وهو يقرأ صدر سورة (يس) من أولها إلى قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:٩]، وليس هذا فحسب، بل أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم حفنة من التراب، ووضع جزءاً منها على رأس كل مشرك؛ من أجل أن يقول لهم: لا تظنوا أنني قد بت خارج البيت، لا، أنا كنت بالداخل وخرجت أمامكم وأنتم لم تروني.
كان من الممكن أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي المشركون، لكن هذا الذي حصل كان لإثبات أن الأمر كله بيد الله عز وجل، وأنه بدون توفيق الله عز وجل لا يتم أمر من الأمور، وظهرت المعجزة الظاهرة الواضحة في نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وجلس عنده حتى نصف الليل حسب الخطة، وبعد ذلك خرجا من الباب الخلفي للبيت، وتسللا من مكة، واتجها جنوباً إلى غار ثور، وعندما وصلا إلى الغار دخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى الغار أولاً، وعمل عملية استكشافية؛ ليطمئن أنه لا خطر فيه، وعندما اطمأن دخل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبهذا يكون هذا الجزء من الخطة مر بسلام والحمد لله.
هذا ما كان في الغار، أما عند بيت الرسول صلى الله عليه وسلم فما زال المشركون على هيئتهم وعلى رءوسهم التراب، وعلي رضي الله عنه مازال نائماً بداخل البيت، وهم على حالتهم مر عليهم رجل مشرك ووجد على رأس كل رجل حفنة تراب، فاستغرب من شكلهم، فقال: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمداً قال: خيبكم الله، قد -والله- خرج عليكم.
فانزعجوا وتساءلوا، قبل قليل كان نائماً، ونحن نراه بالداخل وهو نائم وعليه برده، وبعد ذلك وجدوا التراب على رءوسهم، وليس واحداً أو اثنين، بل كلهم على رءوسهم التراب، فقام المشركون ونظروا من ثقب الباب، فرأوا رجلاً نائماً بالداخل وعليه البرد الأخضر، فتحير القوم، وقالوا: والله إنه لنائم، فهل يصدقون ذلك الرجل الذي قال لهم: إنه قد خرج عليكم، والتراب الذي رأوه على رءوسهم، أم يصدقون أعينهم؟ فأراد شخص منهم أن يريح الجميع، قال: لنكسر الباب ونرى من النائم بالداخل، لكن معظم الكفار اعترضوا؛ وقالوا: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا، كفار مكة لا يهتكون ستر البيوت، ولا يقتحمون حرمات الديار، لا يدخلون بيتاً بغير إذن أهله! انتظر المشركون إلى الصباح ولم يستطيعوا الدخول إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يلحقهم العيب، وبعد قليل إذا هم بـ علي رضي الله عنه وأرضاه قام من الفراش، كان المشركون حينها في منتهى الغيظ، فأمسكوا بسيدنا علي بن أبي طالب وضربوه ضرباً شديداً رضي الله عنه، وأخذوه إلى البيت الحرام ليحققوا معه، وحبسوه هناك، ومع كل هذا الضرب إلا أنه لم يجب عليهم، ومع كونه فارساً مغواراً وكان عمره في ذلك الوقت (٢٣) سنة إلا أنه لم يقاتلهم، وذلك لأمور: أولاً: لم يؤذن بعد للمسلمين بالقتال إلى هذه اللحظة.
ثانياً: الهلكة محققة لغياب كل المسلمين، ولن يدافع عنه أحد، واجتماع كل المشركين على بني هاشم يصعب الأمر أكثر.
ثالثاً: أن عليه مهمة عظيمة وهي رد الأمانات إلى أهلها، فلابد أن يحافظ على نفسه حتى يؤديها؛ من أجل ذلك لم يرد عليهم حكمة وفقهاً من علي رضي الله عنه.
حبس سيدنا علي ساعة من الزمن، لا شهر ولا سنة ولا سنتين؛ لأن كفار مكة رأوا أن من الظلم أن يحبس إنسان بدون جريرة أو بدون ذنب أكثر من ساعة، ففي عرفهم أن الساعة كثيرة جداً.
مكث علي رضي الله عنه وأرضاه بعد ذلك في مكة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم هاجر مباشرة إلى المدينة المنورة.