المرحلة الأولى التي مر بها صلى الله عليه وسلم أسميها: مرحلة الإعداد، هذه المرحلة بدأت منذ نزول الوحي، واستمرت حوالي خمس عشرة سنة من حياته صلى الله عليه وسلم، وهي فترة بقائه في مكة وسنتين من المدينة المنورة إلى قبيل موقعة بدر.
في هذه الفترة بدأ صلى الله عليه وسلم بانتقاء الأفراد الصالحين لحمل الأمانة الثقيلة، ونجح صلى الله عليه وسلم في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين الإسلامي، ليس فقط إلى أهل مكة أو إلى العرب، بل إلى العالم أجمع.
كان بناءً صعباً شاقاً، كان بناءً للإنسان من جديد حرص فيه صلى الله عليه وسلم على توجيه نيات وقلوب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إلى ربهم سبحانه وتعالى الواحد الأحد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، خلصت قلوبهم لله عز وجل، عظموا قدره، أحبوا جنته، خافوا من ناره؛ فتحركت كل ذرة في كيانهم له سبحانه وتعالى، أصبح منتهى آمالهم أن يعملوا له سبحانه وتعالى، وأن يرضى عنهم، وأن يقبل منهم، وأن يغفر لهم ويرحمهم، فلما أصبحوا على هذه الصورة هانت عليهم كل المصاعب، وهانت عليهم كل المشكلات، صغرت في أعينهم جبابرة الأرض ومن ثم حملوا رسالة الإسلام العظيمة، وقاوموا بإصرار كل من حاول أن يثنيهم عن الوصول بهذه الرسالة إلى آفاق الأرض وإلى كل العالمين.
واعلموا أنه بدون جيل كجيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يستحيل بناء الأمة الإسلامية.
هذه كانت أول خطوة: إعداد الطائفة التي تحمل على أكتافها الأمة الإسلامية.
لم يتركه أهل مكة يفعل هذا دون مقاومة أو صد، بل حاربوه هو وأصحابه صلى الله عليه وسلم بكل طريقة، عذبوهم، قهروهم، بطشوا بهم، وقتلوا منهم حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة مرة ثم الثانية، ومع ذلك كان المؤمنون في ازدياد في العدد وازدياد في الإيمان، اضطر المشركون أن يحصروهم في شعب أبي طالب ثلاث سنين كاملة فما ضعفوا وما استكانوا، وخرجوا من الشعب أشد قوة وأعظم بأساً.
مات نصيره من أعمامه أبو طالب، وماتت زوجته الوفية خديجة رضي الله عنها؛ فاشتد إيذاء قومه له أكثر من ذي قبل، حتى خرج إلى الطائف يبحث عن النصرة فما وجدها، بل وجد الصد والإعراض والتكذيب والشقاق وسوء الأخلاق، ثم عاد مرة ثانية إلى مكة صلى الله عليه وسلم يكلم كل صغير وكبير في الإسلام، يخاطب كل وافد على مكة في حج أو في غيره ليشرح له رسالة ربه سبحانه وتعالى، فكذبته عامة القبائل ورفضوا دعوته بكل إصرار، حتى شاء الله عز وجل له أن يقابل ستة من الخزرج من أهل يثرب -المدينة المنورة- فآمنوا به وصدقوه وعادوا إلى قومهم بالدين الجديد يدعون إلى الإسلام في المدينة المنورة، فآمن معهم آخرون وجاءوا بعد عام إلى مكة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم عادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير فما تركوا بيتاً ولا شارعاً ولا حديقة ولا مجتمعاً إلا وعرفوه بالدين، فانتشر الإسلام في المدينة انتشاراً باهراًً، وجاء منهم بعد عام آخر ثلاثة وسبعين من الرجال وامرأتان، جاءوا ليبايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام بيعة العقبة الثانية ليصبحوا بذلك أنصار الله ورسوله، وما هي إلا أشهر قليلة بعد تلك البيعة حتى ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بكفرها، وهاجر إلى المدينة المؤمنة التي صارت بعد ذلك معقل الإسلام، ونواة الدولة الإسلامية الأولى، وهاجر الصحابة المكيون إلى المدينة مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، وعرفوا بعد ذلك بالمهاجرين، واجتمع المهاجرون والأنصار بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على بناء الدولة الإسلامية كما ينبغي أن تبنى الدول.
بنى صلى الله عليه وسلم دولته بشمول عجيب، بناها بتوازن لافت للنظر، استكمل كل جوانب دولته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وقبل ذلك العقائدية، وصارت دولته مضرباً للمثل لأي دولة في العالم في الرقي والحضارة والسمو والأخلاق، ومع صغر حجم دولته وقلة إمكاناتها المادية لم يتركه أعداؤهم من المشركين من أهل قريش أو من الذين لم يؤمنوا من أهل المدينة، بل تعاونوا مع الأعراب ومع اليهود على حربه والكيد له صلى الله عليه وسلم، لكنه قاومهم بحكمة وحنكة لافتة للنظر، تارة بالمعاهدات، وتارة بالإعراض، وتارة بالسرايا، وظل في كل ذلك محافظاً على نهجه التربوي للمهاجرين والأنصار حتى أذن الله عز وجل للصدام الأول بين الكفر والإيمان، وبين أهل الحق وأهل الباطل، أذن الله عز وجل أن يحدث هذا الصدام فدخل المسلمون بسببه في مرحلة جديدة.
كانت غزوة بدر الكبرى أو يوم الفرقان، وحدث فيها ما لا يتخيله عامة البشر، فقد انتصرت الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة المشركة، وتحقق وعد الله عز وجل، وارتفع شأن المسلمين في الجزيرة العربية، وسمع بهم كل العرب، وخضع مشركو المدينة ودخلوا في الإسلام إما اقتناعاً به وإما نفاقاً له، فظهرت بذلك طائفة المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وصارت هذه الفئة أخطر