[المحاولات المبذولة لإثارة حماس الجيش الكافر وتفكيك الصف المسلم في أحد]
على الجانب الآخر كذلك كان هناك تحميس وتحفيز في الجيش الكافر، فقد بدأ أبو سفيان ترتيب جيشه، فوضع خالد بن الوليد على الميمنة، ووضع عكرمة على الميسرة، ووضع صفوان على المشاة، وهؤلاء يعتبرون من عمالقة الفرسان في الجيش المشرك، ووضع عبد الله بن ربيعة على رماة النبل، وأعطى اللواء لبني عبد الدار.
ويذكر التاريخ أن بني عبد الدار كانوا دائماً يحملون اللواء قبل الإسلام وكذلك بعد الإسلام ففي بدر كانوا يحملون اللواء، وفي أحد كذلك كانوا يحملون اللواء، ففي غزوة أحد أراد أبو سفيان أن يستثير حماسة بني عبد الدار، فقال لهم كلاماً في منتهى القسوة حتى يخرج كل ما في نفوسهم.
قال لهم: يا بني عبد الدار! قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، يعني: أنتم كنتم مشاركين في الهزيمة، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، يعني: إن لم تكونوا بقدر حمل هذا اللواء سلموه لي وأنا سوف أتصرف، وهكذا أثار حمية وغضب بني عبد الدار، وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا! ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع، وسبحان الله! صدقوا في كلماتهم؛ فقد أبيدوا عن بكرة أبيهم حول اللواء في موقعة أحد كما سنبين إن شاء الله.
إذاً: هذه كانت محاولة من أبي سفيان لاستثارة الهمة عند الجيش المشرك لحرب المسلمين، وليس هذا فحسب، بل إن النساء بدأن يحمسن جيش المشركين للحرب ضد المسلمين، وقفت هند بنت عتبة ومن معها من النساء يشجعن الجيش المشرك على القتال وينشدن الأشعار في ذلك، وهي أشعار كثيرة جداً ليس المجال أن نفصل فيها، لكن الشاهد أن كل هذه الأشعار كانت عبارة عن علاقات دنيوية أرضية مادية ليس إلا، بينما كان التحفيز على الجانب الآخر في جيش المسلمين بالجنة.
وشتان! وحاول أبو سفيان تفكيك الصف المسلم، راسل الأنصار قال لهم: خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم، لا حاجة لنا إلى قتالكم، وكأنه يقول: نحن نريد محاربة القرشيين فقط، علاقتنا بكم أيها الأوس والخزرج! جيدة منذ القدم، لا نريد أن نقاتلكم، لكن هيهات! كيف لهذه الكلمات أن تقع في قلوب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم وهم من أعظم الناس إيماناً، وقد رد الأنصار عليه رداً في منتهى العنف وأسمعوه ما يكره فعلاً.
واقتربت ساعة الصفر ودنا الجيشان من بعضهما البعض، قامت قريش بمحاولة أخرى لتفكيك الصف المسلم؛ خرج أبو عامر الفاسق الذي كفر برسول صلى الله عليه وسلم، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق، وقد هرب إلى مكة، والآن خرج مع جيش مكة لمحاربة المسلمين في موقعة أحد، فـ أبو عامر الراهب قرر أن يحاول تفتيت الصف المسلم، فخرج ونادى على قومه الأوس، قال: يا معشر الأوس! أنا أبو عامر -يريد تذكيرهم بنفسه، وكان ابنه حنظلة بن أبي عامر في صف المسلمين، لكن شتان بين الاثنين- فقال الأوس: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق! سبحان الله! قالوا ذلك مباشرة؛ لأنهم يعرفون قصته ويعرفون تاريخه، فقالوا له كلمات بمنتهى القوة والبأس، فقال: لقد أصاب قومي بعدي شراً، يقصد أنهم تغيروا، وسنرى بعد ذلك عندما يبدأ القتال أن أبا عامر الفاسق سيقاتل قتالاً شديداً في صف الكفار ضد المسلمين، وسيرمي الحجارة الكثيرة على الجيش المسلم.
إذاً: هذه كانت المحاولة الثانية من قريش لتفكيك الصف المسلم، ولكن فشلت أيضاً، والتقى الجيشان، وستبدأ بعد قليل موقعة من أشرف المواقع في تاريخ المسلمين، وهذه الموقعة في أولها كانت شديدة الشبه بموقعة بدر الكبرى التي مرت بنا في الدروس الماضية، لكن بعض التغييرات البسيطة في الصف المسلم أدت إلى نتائج عكسية هائلة كما تعلمون.
هذه التفصيلات وهذه المناورات التي دارت في أرض أحد لها موضوع خضم جداً يحتاج منا إلى تفصيل.
ونسأل الله عز وجل أن ييسر لنا ذلك في الدروس القادمة.
ونسأل الله أن يجمعنا على الخير دائماً، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.