للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مطاردة جيش هوازن]

رأينا فرار جيش هوازن بكل بطونها أمام جيش المسلمين عندما عاد المسلمون إلى ربهم سبحانه وتعالى، وعندما عادوا إلى الفقه السليم، فرت جيوش هوازن حتى واصلوا فرارهم إلى مدينة الطائف، وفر معهم زعيمهم القومي مالك بن عوف النصري.

بعد هذا الأمر أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم معظم الجيش وذهب لحصار مدينة الطائف، وحرب جيش هوازن، واستغلال فرصة انهزام هوازن من أجل مقابلتهم في معركة فاصلة، من أجل ذلك ترك الرسول صلى الله عليه وسلم توزيع غنائم حنين الهائلة حتى ينتهي من قضية هوازن وثقيف، وتستقر الأوضاع.

سار الرسول عليه الصلاة والسلام بجيشه الضخم متجهاً إلى الطائف، وسبحان الله المقارنة عجيبة جداً بين هذا المسير المهيب للطائف، وبين مسيره صلى الله عليه وسلم إليها من إحدى عشرة سنة، أيام العهد المكي، من إحدى عشرة سنة كان صلى الله عليه وسلم متجهاً إلى الطائف وهو في أشد حالات الحزن والضيق، وكان ماشياً على قدميه ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة رضي الله عنه، طردته مكة وأخرجته وتنكرت له، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها قد ماتت، وكذلك مات عمه أبو طالب أيضاً، وليس معه في مكة إلا قليل من المؤمنين لا يتجاوزون مائة واحد من الصحابة، وكانوا مشردين في الحبشة، وكان الوضع في غاية المأساة، ولم تخفف الطائف من آلامه، بل عمقت الآلام، فرفضت الدعوة الإسلامية بتكبر، وحاربت الرسول صلى الله عليه وسلم بشدة، واستقبلته استقبال اللئام لا استقبال الكرام، وطردوه وصاحبه زيداً رضي الله عنهم، وقد أمطروهما بوابل من الحجارة والتراب والسباب، حتى ألجئوهما إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة.

وأنتم تعلمون الدعاء المشهور الذي دعا به هناك، وهو دعاء يعبر عن درجة الألم والأسى والحزن الشديدة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت.

وغادر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الطائف وعاد متجهاً إلى مكة مهموماً على وجهه في ظروف لا يتحملها عامة البشر، ومع كون حالته النفسية قد وصلت إلى أقصى درجات الألم إلا أنه رفض تدمير هذه القرية الطائف وغيرها من القرى ممن كفر بالله عز وجل، مع أن ملك الجبال عرض عليه هذا الأمر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في منتهى التجرد: (بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده ولا يشرك به شيئاً).

وسبحان الله مرت الأيام، والأيام دول، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] وغير الله عز وجل الأحوال، وجاء صلى الله عليه وسلم الآن بعد إحدى عشرة سنة بما لم يتصوره أحد، لا من الطائف ولا من مكة، ولا من أهل الجزيرة بكاملها، جاء صلى الله عليه وسلم الآن عزيزاً منتصراً ممكناً رافعاً رأسه، محاطاً بجيش مؤمن جرار يزلزل الأرض من حوله، يرفع راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أحد عشر عاماً فقط فرقت بين الموقفين.

وتحقق ما ذكره صلى الله عليه وسلم لصاحبه زيد بن حارثة رضي الله عنه يوم قال له بيقين بعد عودتهم المحزنة من الطائف: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.

وجاء الفرج والمخرج على صورة أعظم بكثير من تصور الجميع، ونصر الله الدين، وأظهر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

لاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الطائف كانت تجول في خاطره ذكريات لا حصر لها، يخرج بجيش يقطع الصحراء باتجاه الطائف للمرة الثانية في حياته، فماذا كان يفكر به صلى الله عليه وسلم؟ لعله تذكر صاحبه زيد بن حارثة حبه رضي الله عنه، الآن زيد لا يسير معهم قد سبق زيد إلى الجنة رضي الله عنه وأرضاه، استشهد في مؤتة كما ذكرنا قبل ذلك، لعله تذكر أهل الطائف وهم يرفضون دعوته جميعاً بلا استثناء في تعنت أشد من تعنت أهل مكة.

لعله تذكر عبد يا ليل بن عمرو بن عمير الثقفي -هذا الذي انتهت إليه الآن زعامة ثقيف- عندما وقف يسخر من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنه يمرط -أي: يمزق- ثياب الكعبة إن كان الله عز وجل قد أرسله.

وعبد يا ليل فر فراراً مخزياً من أرض حنين، وذهب ليختبئ في جبن ظاهر في داخل حصون الطائف.

لعله تذكر عداس النصراني رضي الله عنه الغلام الصغير الذي آمن، واختفى ذكره من السيرة بعد ذلك، ولا نعلم من حاله شيئاً، لكن الله عز وجل يعلمه.

لعله تذكر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة صاحبي الحديقة التي لجأ إليها صلى الله عليه وسلم عندما طردوه من الطائف، فالآن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة يرقدان في قليب بدر يعذبان مع قادة الكفر في قبورهم.

لعله تذكر وهو يمر من وادي نخلة مجموعة الجن التي آمنت به ف