[سبب هزيمة المسلمين في أول غزوة حنين]
خرج الجيش الإسلامي في (٦) من شوال سنة (٨) هجرية، ووصل إلى وادي حنين في (١٠) من شوال سنة (٨) هجرية، وفي أثناء الطريق والجيش يسير بهذه الصورة البهية قال بعض المسلمين الجدد من الطلقاء، قالوا كلمة تعبر عن مرض خطير، وسرعان ما انتشرت هذه الكلمة في الجيش بكامله، انتشرت هذه الكلمة كما تنتشر النار في الهشيم، وهذه الكلمة في ظاهرها بسيطة يسيرة لكن كان لها من الأثر ما لم يتخيله المسلمون أبداً.
قال المسلمون: لن نغلب اليوم من قلة.
كما ذكرنا أن المسلمين كانوا قد فتحوا مكة وهزموا قريشاً بعشرة آلاف فلا شك أنهم سينتصرون في حنين على هوازن بـ (١٢.
٠٠٠) مقاتل، هكذا اعتقد المسلمون، بل وصرح المسلمون بألسنتهم بهذا الاعتقاد، وهذا لم يكن أمراً قلبياً، بل خرج على الألسنة.
وعندما قال المسلمون هذه الكلمة شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحس أن مشكلة ستحصل، وظهر على وجهه الحزن، وأحس أن هناك شيئاً خطيراً سيحدث لهذا الجيش الكبير.
حسناً: لماذا كل هذه التداعيات لهذه الكلمة البسيطة اليسيرة؟ الجملة في ظاهرها صحيحة، وتركيبها ومعناها صحيح، بل إن هذه الجملة مستنبطة من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود والترمذي وحسنه ورواه الدارمي والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) فمعنى الحديث: أن الجيش الذي وصل إلى (١٢.
٠٠٠) مقاتل لن يهزم بسبب قلة العدد، لكن قد يهزم لأسباب أخرى، قد يهزم لأسباب مادية أو أسباب قلبية، يعني: قد يوجد (١٢.
٠٠٠) مقاتل وليس هناك إعداد عسكري، أو ليس هناك قوة سلاح، أو عندهم خلل في الخطة، أو عدم مهارة في القيادة أو غير ذلك من الأمور المادية، فهذه كلها قد تكون سبباً في الهزيمة، لكن هذه الأشياء في جيش المسلمين الخارج إلى حنين كانت على أحسن مستوى، لكن قد يغلب الجيش لأسباب قلبية، وهذا أمر خطير جداً.
فهذه الكلمة التي قالها بعض المسلمين تعبر عن مرض قلبي خطير، وهذا المرض هو العجب بالنفس وبالعدد وبالإعداد المادي، وهو الاعتماد على الأسباب ونسيان رب الأسباب، وهو الظن أنني أنا الذي فعلت وليس الله الذي فعل، ولا شك أن الصحابة وغيرهم من الصالحين لو سئلوا سؤالاً مباشراً: هل النصر من عندك أم من عند الله؟ لا شك أن الجميع سيجيب بلا تردد: بل هو من عند الله عز وجل.
لكن هذا الشعور الخفي، شعور الإعجاب بالنفس والغرور يتسلل إلى النفس بلطف شديد، لا يشعر به المؤمن إلا وقد تفاقم.
والإعجاب بالنفس ليس هو الثقة بالنفس، الثقة بالنفس أمر محمود، أما الإعجاب بالنفس فأمر مذموم، والثقة بالنفس أمر مطلوب؛ لأن الجيش لا ينتصر ولا ينجح بغير الثقة بالنفس، لكن لا يجب أن تزيد الثقة بالنفس حتى تصل إلى درجة التوكل على النفس، وليس التوكل على الله عز وجل.
والفارق بين الثقة بالنفس والإعجاب بالنفس شعرة، والموفق من وفقه الله عز وجل.
الواضح من النبرة التي عند الصحابة حين قالوا: لن نغلب اليوم من قلة.
أنها كلمة تعبر عن ثقة زائدة عن الحد بالنفس، من أجل ذلك غضب الرسول عليه الصلاة والسلام لما سمعها وحزن حزناً ظهر على وجهه صلى الله عليه وسلم، ولو قيلت نفس الجملة على سبيل تبشير المسلمين وطمأنة المسلمين لكانت جملة مناسبة وجميلة ومستحسنة، لكن هذا الكلام لم يحصل، وإنما أُعجب المسلمون بعددهم وتوكلوا على كثرتهم، وهذا هو المرض الذي ذكره سبحانه وتعالى في الكتاب الكريم في حق هؤلاء، قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:٢٥].
لا يقولن أحد أبداً: إن هذا المرض كان عند الطلقاء حديثي الإسلام فقط، لا، للأسف انتقل المرض من الطلقاء إلى عامة أفراد الجيش الإسلامي، حتى وصل إلى معظم السابقين، وهذا أمر خطير، وسنرى أثر هذا الكلام بعد قليل.
إن الأمراض القلبية كالعجب والكبر وحب الدنيا والحسد أمراض معدية، إن ظهرت في طائفة ولم تعالج جيداً تنتشر كالوباء، من أجل ذلك كان دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان واضحاً أن هذا الدور لم يؤد على الوجه الأكمل في هذه المعركة، فحدث أن هذه الكلمة انتشرت في الجيش كله، وكان لهذه الكلمة الخطيرة أثر على كل الناس، وغريب أن البعض القليل قد يؤثر على الكثير، ومن الخطر جداً أن يخرج ضعيف الإيمان في وسط الجيش المؤمن، لكن لولا ظروف مكة حديثة الإسلام وخطورة انقلاب مكة كما ذكرنا قبل ذلك لكان الأفضل ألا يخرج للقتال متذبذب الإيمان، لكن هذه كانت ظروفاً قهرية اضطر المسلمون فيها إلى اصطحاب الطلقاء، مع أن الله تعالى يقول في الكتاب: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:٤٧]، لكن غالب الطلقاء لم يكونوا منافقين محترفي النفاق، وإنما