إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس السادس من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
تحدثنا قبل ذلك عن صلح الحديبية، وذكرنا أن صلح الحديبية يعتبر نقطة تحول حقيقي ويعتبر نقلة نوعية في تاريخ الأمة الإسلامية بكل المقاييس، ولذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح الهام يرتب أوراقه من جديد، فقد قام بخطوتين كان من الصعب جداً أن يقوم بهما قبل هذا الصلح: الخطوة الأولى: خطوة مراسلة زعماء وملوك العالم، وهي خطوة ما كان يستطيع أن يقوم بها أبداً قبل صلح الحديبية؛ لأن دولة الإسلام في ذلك الوقت كانت دولة غير مستقرة، غير معترف بها حتى في محيط الجزيرة العربية، فكيف يعترف بها على مستوى العالم، أما بعد صلح الحديبية فقد استقرت الأوضاع إلى حد كبير جداً في المدينة المنورة، وأمن الناس من احتمال الحرب، واعترفت قريش بالدولة الإسلامية، وكذلك اعترفت القبائل العربية الكبرى بهذه الدولة الجديدة، بدليل دخول بعض القبائل -كخزاعة- في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ونتيجة هذا الاستقرار بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في نشر الإسلام عالمياً عن طريق مراسلات عديدة إلى زعماء وملوك العالم كما فصلنا.
إذاً: هذه كانت هي الخطوة الأولى بعد صلح الحديبية، وتقريباً بدأت في أول محرم سنة سبع أو في أواخر سنة ست في آخر ذي الحجة.
الخطوة الثانية: فتح خيبر، وقد قام به صلى الله عليه وسلم بمجرد أن انتهى من صلح الحديبية.
وخيبر كما نعلم جميعاً من أكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية، وملف اليهود بصفة عامة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أسود شديد السواد، وهذا السواد شمل كل فترات المعاملات، سواء في السلم أو في الحرب، أو في وقت المعاهدة التي عقدها مع يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، كان الأصل عند اليهود في التعامل هو الخيانة المتكررة، والتشكيك المستمر في دين الإسلام، ومحاولة إثارة الفتنة على الدوام، ثم تطور الأمر إلى معارك حقيقية بين المسلمين وبين يهود القبائل الثلاث، وانتهى الأمر بإجلاء قبيلتي بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال القبيلة الثالثة بني قريظة، ولم يبق من تجمعات اليهود الكبرى في الجزيرة إلا تجمع خيبر وما حولها من تجمعات أصغر مثل تجمع تيماء، وتجمع فدك، وتجمع وادي القرى، لكن التجمع الرئيس كان تجمع خيبر، وهذا التجمع الكبير من أقوى التجمعات اليهودية مطلقاً، وقد ازداد قوة بعد إجلاء يهود بني النضير؛ لأنهم انضموا بكل طاقتهم إلى يهود خيبر، وإذا كنا رأينا قبل ذلك أن كل التعاملات اليهودية مع الرسول عليه الصلاة والسلام كان فيها خيانة وغدر وكيد وتدبير مؤامرات تلو المؤامرات، فإن يهود خيبر لم يخالفوا هذه القاعدة، مع أن علاقة يهود خيبر بالرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن مباشرة كالقبائل اليهودية الثلاث التي ذكرناها قبل ذلك، إلا أنهم لم يكفوا عن محاولتهم للكيد للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وأخطر محاولات ومؤامرات خيبر كانت مؤامرة جمع القبائل العربية المختلفة لحرب المسلمين في المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، فيهود خيبر بعثوا وفداً كبيراً جداً مكوناً من عشرين زعيماً من زعماء خيبر، بالاشتراك مع بعض زعماء قبيلة بني النضير، وبدءوا يجوبون القبائل العربية الكبرى مثل: قريش، وغطفان وغيرهما؛ لتحفيز هذه القبائل على الاجتماع لحرب المسلمين، ولم يكتف يهود خيبر بالدور التنسيقي للأحزاب، بل بذلوا المال وثمار خيبر لقبائل غطفان؛ لكي يدفعوها دفعاً لاستئصال المسلمين، وقبائل غطفان مرتزقة يحاربون بالأجر، فخيبر ضحت بنصف ثمارها؛ لكي تدفع غطفان لحرب المسلمين، وليس هذا فحسب، بل كان لهم دور كبير جداً في إقناع بني قريظة بخيانة عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الفعل كان سيؤدي إلى كارثة حقيقية بالمدينة المنورة، لولا أن الله عز وجل لطف بعباده المؤمنين، كما فصلنا وشرحنا في غزوة الأحزاب.
رغم فشل الأحزاب في غزو المدينة إلا أن يهود خيبر لم يكفوا أبداً عن محاولتهم المضنية لإيذاء المسلمين، وثبت أنهم قاموا بالتجسس مع المنافقين في المدينة المنورة؛ لكي يدبروا مؤامرات كيدية للمسلمين، ووصل الأمر إلى محاولة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا التاريخ الطويل من الكيد والدس والمؤامرات يحتاج إلى وقفة من المسلمين، وكان من الأفضل والمناسب أن تكون هذه الوقفة بعد غزوة الأحزاب مباشرة، لكن لم يكن ذلك ممكناً ومتيسراً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخشى أن تباغت قريش المدينة المنورة في أي لحظة، وما غزوة الأحزاب عنه ببعيد، لأنه قد يجتمع الناس من جديد لمحاصرة المدينة واقتحامها، فالرسول عليه الصلاة والس