[بنود المعاهدة النبوية مع اليهود]
إن بنود المعاهدة مع اليهود تستخلص منها قواعد المعاهدات في الإسلام، وأصوله، وهذه المعاهدة بهذا الوصف توضح مدى التجني على السيرة النبوية، الذي قام به من شبّه المعاهدات الحديثة في زماننا مع اليهود بالمعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود في زمانه، وشتان بين المعاهدتين.
تعالوا بنا لنرى بنود معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وهذا البند يوضح لنا حقيقة كبرى، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:٢٥٦] فللمسلمين دين ولليهود دين، وفي هذه المعاهدة تعريف كل اليهود الموجودين في داخل المدينة المنورة بأسماء قبائلهم، يعني: يهود بني النجار، يهود بني حارثة، يهود بني ساعدة، يهود بني عوف وهكذا.
ثانياً: أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
أي: الذمة المالية لهم محفوظة تماماً من قبل زعيم الدولة في ذلك الوقت صلى الله عليه وسلم، فليس معنى أننا عاهدناهم، وأن الزعامة في الدولة والرئاسة في الدولة للمسلمين أن يؤخذ حقهم، أو أن تؤخذ ممتلكات لهم، بل لهم حرية التملك ما داموا في عهدهم مع المسلمين في داخل الدولة الإسلامية.
وفي نفس الوقت فيها نوع من تميز المسلمين عنهم، فلا تعني هذه المعاهدة أن الأمور ستتميع، ويصبح الاقتصاد الإسلامي ممزوجاً بالاقتصاد اليهودي، لا، ليس للمسلمين دخل بحياتهم، بل لهم حياتهم المستقلة التي يعتزون بها.
ويدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في المعاهدة هذا البند؛ لأن الاقتصاد في تلك اللحظة كان معظمه في أيدي اليهود.
ثالثاً: أنه في وقت الحرب يتغير هذا الأمر، فإذا حدث حرب أو حصار على المدينة المنورة، فالجميع بحق المواطنة يدافع عن المدينة المنورة، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
أي: ما دام المسلمون واليهود يعيشون في بلدة واحدة، لزم الجميع الدفاع عن البلد إذا حصل غزو خارجي.
رابعاً: أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين أي: إذا حصل حرب تجتمع النفقة من الطرفين للدفاع عن البلد.
وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
كلها أمور تحفظ لليهود شأنهم في داخل الدولة التي يتزعمها محمد صلى الله عليه وسلم.
خامساً: هناك بند خطير جداً وفي منتهى القوة: يقول صلى الله عليه وسلم: (وأنه لا تجار قريش ولا من ناصرها) وهذا بند خطير.
فهذه المعاهدة مكتوبة، وقع عليها الرسول عليه الصلاة والسلام ووقع عليها اليهود، وهو أنه إذا دهم يثرب أي عدو فعلى الجميع أن يتعاون في صده، حتى ولو كان هذا العدو قريشاً، ولم يكن بين قريش واليهود خلافات قبل ذلك، بل كانت العلاقات الدبلوماسية بينهم جيدة.
فاليهود بهذه المعاهدة قرروا أن يقاطعوا قريشاً؛ لأنهم يتوقعون أن قريشاً تهجم على المدينة المنورة، لكن لمعرفة الرسول عليه الصلاة والسلام أن اليهود أهل خداع ومكر وغدر وخيانة، صرح في المعاهدة باسم قريش؛ لئلا تقول اليهود في يوم من الأيام: إن قريشاً مستثناة من هذه المعاهدة، واعلم أن أي معاهدة مع اليهود لابد أن تكون كل كلمة فيها مكتوبة بمنتهى الوضوح، فقوله: (وأنه لا تجار قريش ومن ناصرها)، يعني: إذا هجمت قريش على المدينة فعلى اليهود أن يساعدوا المسلمين في حربهم لا قريشاً في حربها ضد المسلمين، وسنرى مخالفة اليهود لهذا البند في بني قريظة، ونفهم من خلفيات غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني قريظة، عندما عاونت قريشاً على المسلمين في يوم الأحزاب، فنحن نلاحظ أن هناك قوة وصلابة في المعاهدة من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يملي الشروط على اليهود.
سادساً: قال صلى الله عليه وسلم: (وألا يخرج من اليهود أحد إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم)، وهذا مثل نظام الجوازات في الوقت الحاضر، لا أحد يغادر الدولة إلا بإذن من السلطة نفسها، فليس لقبائل اليهود في داخل المدينة المنورة أن يخرجوا لحرب أو سفر أو لأمر من الأمور إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم قد يشعلون نار الفتن خارج المدينة؛ فتجر هذه الفتن الويلات على المدينة المنورة بما فيها من اليهود والمسلمين.
إذاً: تأشيرة الخروج والسماح بالسفر كانت في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى الفرق الرهيب بين هذه المعاهدة وبين المعاهدات التي عقدت في فلسطين مع اليهود.
سابعاً: أهم بنود هذه المعاهدة: قوله صلى الله عليه وسلم: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم).
لو حصل خلاف بين المسلم وأخيه، أو حصل خلاف بين المسلمين واليهود، فالحكم لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فانظر يا أخي المسلم إلى مدى القوة، ومدى النصر والبأس الذي حققه صلى الله عليه وسلم بهذه المعاهدة، أبعد هذا كله يشبهون المعاهدات الحديثة بهذه المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود؟!