للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكمة من الدعوة السرية]

لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يصل بدعوته لكل إنسان في مكة، بل لكل إنسان على ظهر الأرض، وربما تصور المرء أن أسهل وسيلة لهذا أن يقف وسط الكعبة من أول يوم أُمر فيه بالبلاغ ويعلن للناس أمر الإسلام، لكن هذا لم يحدث، فماذا فعله صلى الله عليه وسلم؟ كان صلى الله عليه وسلم ينتقي رجلاً من رجال قريش، ثم يخبره سراً عن الإسلام، وكان يعلم أصحابه أن يفعلوا هذا، وقد ظلت الدعوة السرية فترة طويلة جداً بالقياس إلى عمر الدعوة الإسلامية، فالدعوة السرية امتدت حوالي ثلاث سنوات، والدعوة كلها (٢٣) سنة.

قد يتصور البعض أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وقف على جبل الصفا وقال للناس: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدّقي؟)، يظن أن هذه المقولة كانت في بادئ الدعوة، لا.

بل كانت بعد ثلاث سنين كاملة من نزول الوحي.

وهي فترة كبيرة جداً أيضاً في حق مجتمع صغير كمكة، لكن لماذا هذا الوضع؟ ولماذا هذا التخفي؟ قد يتحمس المرء ويقول: دعوة الإسلام دعوة جميلة ومقنعة وعقلية، ولو وقف الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط مكة وأعلن عنها لسوف يسلم أكبر عدد من الناس في أقل وقت ممكن، لكن هذا لم يحصل ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعرف أن دعوة الإسلام وإن كانت جميلة ومقنعة، إلا أنها ستتعرض إلى معارضة وحرب، ليس فقط من قريش، بل من العالم كله.

ثم لو أتى سائل يسأل: هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان خائفاً على نفسه من قريش؟ سأقول له: لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن كانت هذه هي الحكمة، كل خطوة في حياته صلى الله عليه وسلم كانت محسوبة، تستطيع أن تقول: إن السرية في الدعوة في هذه المرحلة لم تكن اختياراً نبوياً، ولكنها كانت أمراً إلهياً، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يعلمنا منهج التغيير في مثل هذه الظروف، كيف يمكن للأجيال التي ستأتي بعده أن تغير في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إذا توافقت الظروف مع ظروف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة كيف يتصرف؟ والله سبحانه وتعالى قادر أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يصل إليه أي أذى من قريش، ومع ذلك هو يريد أن يرسم الطريق الصحيح للمسلمين لإقامة هذا الدين، مهما اختلفت الظروف، ومهما كثرت المعوقات؛ ولهذا ربنا سبحانه وتعالى وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل الظروف التي من الممكن أن تمر بها أمته بعد ذلك، وعلّم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل مع كل حدث؟ كيف يصل بدعوته إلى الناس في وجود أي معوق؟