[أقوال العلماء في غنائم حنين وبيان الراجح منها]
فماذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين الهائلة؟ الفقهاء وكتاب السير اختلفوا فيما فعله صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين خاصة؛ أما المعارك السابقة بدءأً من بدر وحتى هذه اللحظة فقد اتفق الجميع على أن أربعة أخماس الغنائم توزع على الجيش وخمس للدولة، إلا أن الأمر بالنسبة لحنين كان موضع خلاف بين الفقهاء.
فمنهم من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع الغنائم بكاملها على المؤلفة قلوبهم.
والمؤلفة قلوبهم: هم الذين أسلموا حديثاً سواءً من أهل مكة الطلقاء، أو من الذين أسلموا من الأعراب قبل فتح مكة مباشرة.
ومن قال بهذا الرأي: ابن حجر العسقلاني رحمه الله كما في فتح الباري.
ومنهم من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع أربعة أخماس الغنيمة على الجيش بكامله، ثم أعطى المؤلفة قلوبهم من الخمس المتبقي المملوك للدولة.
وممن قال بهذا الرأي: القرطبي، وأبو عبيد القاسم بن سلام صاحب كتاب الأموال، وابن خلدون، والقاضي عياض وغيرهم.
وأنا أميل إلى هذا الرأي الأخير؛ لأن هذا الرأي يتفق مع الشرع والعقل والنقل، وعندي أكثر من دليل على ذلك: الأول: هذه الغنائم ليست ملكاً للرسول عليه الصلاة والسلام ليوزعها بطريقة تخالف التوزعة الشرعية، بل هذه الغنائم ملك للجيش، ولا تؤخذ منه إلا باستئذان خاص، وأيضاً هذا ما حصل.
ومن قال: إن هذا أمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام يلزمه الدليل على ذلك، وإلا يصبح من حق أي زعيم أن يقول: إن ظرفي يماثل ظرف يوم حنين، فيأخذ الغنائم كلها لينفقها حسب ما يرى.
الدليل الثاني: لو كان هناك تغيير في تقسمة الغنائم لتوقعنا أن يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك أمر خاص بهذه الواقعة، حتى لا يعتقد البعض أن ما فعله في حنين قد نسخ التقسيم السابق للغنائم، خاصة وأن هذه المعركة هي آخر موقعة حربية مع العرب، حتى موقعة تبوك التي لم يحدث فيها قتال، ولم تكن فيها غنائم.
الدليل الثالثة: ما رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وكذلك عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لأعرابي عند توزيع غنائم حنين بعد أن أمسك وبرة أو شعرة بين إصبعيه قال: (إنه ليس لي من الفيء شيء، ولا هذه) أي: ولا مقدار هذه الشعرة، (إلا الخمس، والخمس مردود فيكم) فهذا تصريح من الرسول عليه الصلاة والسلام، وقاله بعد توزيع الغنائم، ولا أدري كيف خفي هذا الحديث عمن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم وزع الغنائم بكاملها على المؤلفة قلوبهم، والحديث أيضاً رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت، وأخرجه كذلك مالك والشافعي، وحسنه ابن حجر في الفتح.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يصرح أنه لا يملك في يوم حنين إلا الخمس فقط من الغنائم.
يبقى هذا الدليل الثالث.
الدليل الرابع: لو نظرت إلى من وزع عليهم الغنائم لأدركت أنه من المستحيل أن يكون قد قسم كل هذه الغنائم على المؤلفة قلوبهم، فعدد الذين أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العطاء السخي لا يزيدون في أي كتاب من كتب السيرة على عشرين رجلاً، ولو جمعت الأسماء من الكتب المختلفة قد تصل إلى أربعين أو خمسين رجلاً بالكثير.
إذاً: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الناس مائة من الإبل فعطاؤه لأربعين رجلاً سيبلغ أربعة (٤٠٠٠) بعير فقط، مع أنه كان يعطي بعضهم خمسين لا مائة، فسيكون أقل من (٤٠٠٠) أو أقل من (٥٠٠٠) بعير.
فهذه (٤٠٠٠) بعير فأين ذلك من (٢٤٠٠٠) بعير هي غنائم حنين من غير الشياه فقد بلغت (٤٠٠٠٠) شاة، وغير الفضة (٤٠٠٠) أوقية من الفضة، وغير (٦٠٠٠) من السبي، ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم أعطى أرقاماً كبيرة كمائة بعير أو خمسين بعيراً إلا لهذه المجموعة من المؤلفة قلوبهم فقط.
الدليل الخامس: هل كان سيرضى أفراد القبائل من الأعراب ومن قريش إعطاء زعمائهم فقط، أم أنهم لا يرضون أبداً إلا إذا أخذوا ولو شيئاً يسيراً؟ يعني: لو أنا أعطيت لزعيم قبيلة غطفان مائة من الإبل، هل سيرضى (٢٠٠٠) أو (٣٠٠٠) غطفاني دون إعطائهم؟ لاشك أن قلوب الجميع كانت تهفوا إلى الغنيمة، وكل الناس تحتاج إلى تأليف قلوبهم.
أنا أرى أن (٩٩%) من المسلمين الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية وبعد فتح خيبر يحتاجون إلى تأليف لقلوبهم، ولن يترفع منهم عن هذه الغنيمة إلا القليل، أمثال: خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، والعباس، أمثال هؤلاء الكبار وبعض الأفراد المعدودين.
أما الباقي فسيحتاج إلى تأليف، ودليل ذلك أن الرسول عليه السلام عند الهزيمة أول المعركة في حنين لم ينادِ على أولئك الذين أسلموا قبل الفتح؛ لأ