للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اتهام فنحاص ربنا عز وجل بالفقر ورد ابي بكر الصديق عليه]

إن الصبر والحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته شجع اليهود على تجاوزات أكبر، من ذلك ما حدث عندما دخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه بيت المدراس، وهو بيت كبير يعلم فيه اليهود التوراة، ويقوم فيه بالتعليم حبر من أحبار اليهود اسمه فنحاص، ومعه آخر يساعده اسمه أشيع، فدخل أبو بكر على اليهود وهم يعلمون التوراة بطريقتهم، بتحريفها وتزويرها وتبديلها، وبإنكار نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما دخل الصديق وسمع هذا الكلام قال لـ فنحاص ومن معه: يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال فنحاص لـ أبي بكر: والله يا أبا بكر! ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير! -أعوذ بالله يعني: لسنا محتاجين إليه وإنما هو الذي يحتاج إلينا- وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا! وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان عنا غنياً ما أعطانا الربا.

تخيل معنى الكلمات، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:٢٤٥]، فهو يقول: إن هذا نوع من الربا، ألست تعطي الله أموالاً وهو يضاعفها لك، فهذا ربا، فكيف ينهى عن الربا ويأخذه؟ فانظروا إلى مدى اعوجاج هذا الخبيث، هذا هو فنحاص، كلام يعبر عن نفسية ممزقة تماماً، هي نفسية فنحاص ومن كانوا على دينه.

لم يجد أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كلاماً يرد به عليه، فرد بيديه وضرب فنحاص ضرباً شديداً في وجهه حتى اختفت معالم وجهه، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي له الموقف، وكان تصرف أبي بكر على غير ما اتفق عليه المسلمون، إذ كان المسلمون مأمورين بالعفو والصفح وعدم الإيذاء.

فجاء فنحاص يشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما فعله أبو بكر به، وقال له: انظر ما صنع بي صاحبك، فقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق: (ما حملك على ما صنعت؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن عدو الله هذا قال قولاً عظيماً، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فأنكر فنحاص وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:١٨١]).

وهكذا أنزل الله آيات تصدق قول الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكشفت ما قاله فنحاص عليه لعنة الله، وأنزل الله عز وجل في حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:١٨٦] مع أن الغضب هنا كان لله عز وجل وليس للناس، ومع أن العقاب الذي فعله الصديق يعتبر مناسباً للحدث؛ لأنه اعتبر أن الدفاع الذي فعله كان مناسباً للجريمة التي فعلها فنحاص؛ لأن فنحاص سب الله عز وجل سباً وقحاً وجرح دين المسلمين، وهذا مخالف للعهد، وكان الصديق يستطيع قتل فنحاص، فقد قال لـ فنحاص كما في إحدى الروايات: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك يا عدو الله! فاكتفى الصديق بهذا الأمر.

إذاً: مع كل هذا إلا أن الله عز وجل أمر المسلمين بالتعقل والصبر، حتى وإن كانت الجريمة قد تمت؛ لأن الدخول في حرب في هذا التوقيت لعله يفتح على المسلمين أبواباً كبيرة من الفتن، ولعله يؤدي إلى تداعيات لا يتحملها موقف المسلمين في هذه اللحظة.

فيا ترى! هل سيستمر رد فعل المسلمين على كل هذا الإيذاء والتعدي على حرمات رب العالمين سبحانه وتعالى، بمجرد الصبر وتحمل الأذى، وعدم الدخول في صدامات أو صراعات؟ لا شك أن هذه مرحلة، وأن المسلمين بتغير الظروف سيغيرون هذه المرحلة، وستتغير التكليفات التي عليهم.

وسنرى إن شاء الله في اللقاءات القادمة كيف تغيرت الظروف، وأدت إلى تغيرات إستراتيجية كبرى في رد فعل المسلمين لأي إيذاء يقع على الأمة الإسلامية.

إ