[طبقة عامة المؤمنين]
الطبقة الثانية: طبقة عموم المؤمنين، وإذا كانت الطبقة السابقة هي طبقة القادة في الخير، فهذه طبقة الأتباع في الخير أيضاً، هؤلاء هم أصحاب الفطرة السليمة، والأخلاق الحميدة، والروح الإسلامية النقية، هؤلاء يستجيبون لنداء الجهاد دون تردد، يتحركون دون تكاسل، يرفعون راية الحق ما دام قد طلب منهم ذلك، هذه هي الطبقة الرئيسية في الأمة المنتصرة الممكنة.
هذه الطبقة وإن كانت تأتي خلف طبقة عمالقة الإيمان إلا أنها عماد الدولة، وكيانها الرئيس، وعموم الناس فيهم خير كثير، وأمل كبير، نعم هم ليسوا قادة الناس ومحركيهم، ولكن ليس كل الناس أبا بكر أو عمر، فقادة الناس ماذا يفعلون بغير شعوبهم وجنودهم؟ أي قيمة لقائد متميز إن كان شعبه فاسداً؟ والعكس كذلك، لا قيمة لشعب متميز إن كان قائده فاسداً، لذلك من سنة الله عز وجل أن الحكام يكونون على شاكلة شعوبهم، والشعوب تكون على شاكلة حكامها، الشعب الطيب يحكمه قائد طيب، والشعب الفاسد لا يفرز إلا حاكماً فاسداً.
فعامة الناس تولد على الفطرة، تولد على حب الله عز وجل وحب الدين، وهذا الحب مزروع تلقائياً في قلوب عامة الآباء، لكن تأتي عوامل التربية والبيئة التي تغير من طبائع الناس، كما أن الطفل يولد على الفطرة، ثم يتغير حسب تربيته، كذلك الشعوب: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، كذلك الشعوب يستطيع الحاكم الصالح أن يحول شعبه بسهولة إلى شعب صالح طيب؛ لأن عامة الناس في فطرتها الخير، وفي نفوسها سياق طبيعي للفضيلة، لكن المؤثرات الخارجية تخرجهم عن جادة الطريق.
ووظيفة الحاكم هي قمع المؤثرات الخارجية الفاسدة التي تسبب انحراف الناس وتغير الفطرة، والقائد الذي لا يستطيع أن يمنع المفاسد والشرور والمعاصي والظلم والبغي هو قائد لا يستحق القيادة، لا ينبغي له أن ينال شرف الإمارة، وعليه أن يترك الأمر لمن يصلح البلاد والعباد، وهناك أمثلة لقادة غيروا شعوبهم في وقت قليل في التاريخ وهي كثيرة جداً، منهم: عمر بن عبد العزيز رحمه الله، صلاح الدين الأيوبي، قطز ألب أرسلان، محمود الغزنوي، يوسف بن تاشفين، عبد الرحمن الداخل، عبد الرحمن الناصر، محمد الفاتح وغيرهم، وغيرهم، وقبل كل هؤلاء معلمهم ومعلمنا وقدوتهم وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم حرك بواعث الخير الموجودة في داخل نفوس الناس، فاستجابت لدعوة الحق وآمنت وتحركت وجاهدت وضحت وسعدت بذلك في الدنيا والآخرة.
ثم ليعلم أنه ليس مطلوباً من القائد الصالح أن يجعل شعبه كله من عمالقة الإيمان، ذلك أمر لا يستطيعه، لكن المطلوب منه أن يجعل قلوب العامة من شعبه تميل إلى الحق، وتحب الخير، وتقبله وتتمناه، تطيع الله عز وجل فيما أمر، ومن هؤلاء سيخرج قليل من عمالقة الإيمان، وهؤلاء العمالقة سيحركون الآخرين ويقودونهم، وبذلك تسير البلاد من وضع سيئ إلى وضع حسن، ومن حسن إلى أحسن منه، وهكذا.
ومن كلامنا الذي مضى نستطيع أن نستنتج كيف تقوم الأمم وتبنى، فالأمر يبدأ بمرب مخلص يربي مجموعة مختارة على الإيمان والعمل الصالح، يزرع فيهم الفكرة التي من أجلها ستقوم الأمة، ثم يزداد هذا العدد الذي يربيه قائدهم، ولكن يبقون في تعداد القليل بالنسبة لعامة الناس، وهؤلاء هم طبقة عمالقة الإيمان، ثم يأذن رب العالمين بالتمكين لهذا القليل بعد مراحل متعددة من الابتلاء والاختبار، ويأتي التمكين كما رأينا في دروس السيرة بصورة لا يتخيلها عمالقة الإيمان، ومن طريق لا يتوقعونه، فإذا مكنوا في الأرض، فإنهم حينئذ يستطيعون -بفضل الله عز وجل- أن يغيروا معظم العامة من الشر إلى الخير، ومن الفساد إلى الصلاح، وعادة ما يكون هذا التغيير سريعاً، فالجهد كل الجهد والوقت كل الوقت يكون في تربية طبقة عمالقة الإيمان.
أما طبقة عامة الشعب فإنها تربى في وقت سريع، وكما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وهكذا تقوم أمة الإسلام: مرب يربي عمالقة إيمان، ثم ابتلاء، ثم تمكين، ثم تربية سريعة لعامة الناس.
فإذاً: هاتان طبقتان من أهم الطبقات في الأمة الإسلامية: طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عامة المؤمنين الصالحين، وفي كلٍّ خير، وهاتان الطبقتان هما اللتان جاءتا في قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:١٠].
الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا هم طبقة عمالقة الإيمان، والذين أنفقوا من بعد الفتح والتمكين وقاتلوا هم طبقة عامة المؤمنين.
وعلى الرغم من أن كلتا الطبقتين على خ