للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القصة الثانية]

هذه قصة أخرى عجيبة حدثت في أثناء رجوع هذا الجيش المبارك إلى المدينة المنورة، ورواها أبو داود عن جابر رضي الله عنه وأرضاه: أن جيش المسلمين نزل بأحد الأماكن للراحة، فعيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين للحراسة: عباد بن بشر الأنصاري رضي الله عنه، وعمار بن ياسر المهاجري رضي الله عنه، فقسم الليل بينهما، فكانت نوبة عباد بن بشر، فأراد أن يقطع الليل بالصلاة، ووقف يصلي قيام الليل، فجاءه أحد المشركين أيضاً من غطفان، ورماه بسهم، فنزع عباد السهم وأكمل صلاته، والدم يسيل منه ويتفجّر، فرماه المشرك بسهم آخر فنزعه عباد وأكمل صلاته، فجاءه السهم الثالث فنزعه عباد ثم ركع وسجد وأنهى صلاته، ولم يقطع الصلاة فجأة ولكنه أكمل صلاته، ثم أيقظ عمار بن ياسر، فلما وجد عمار بن ياسر الدماء في كل مكان ورأى الأسهم الثلاثة، قال لـ عباد: هلا أيقظتني أول ما رمى؟ فيرد عباد بن بشر رضي الله عنه في يقين وخشوع ويقول: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها.

وفي رواية ابن إسحاق: قال عباد: وايم الله لولا أن أضيّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أحب إلي من قطعها.

أي: لقطع هذا الرجل حياتي قبل أن أقطع هذه السورة، ولك أن تتصور مدى استمتاع عباد بقراءته، ومدى حبه لقيام الليل، ومدى استغراقه في عبادته، ومدى خشوعه وتركيزه في الصلاة رضي الله عنه وأرضاه.

والشاهد في هذه القصة هو أن هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام هرب عندما رأى عمار بن ياسر استيقظ وفر إلى قومه، ولا ندري عنه شيئاً بعد ذلك، إلا أنه انبهر لرؤية أولئك الذين كانوا منذ قليل يغزونهم بشجاعة ويحاربونهم بضراوة يقفون في عبادتهم بهذه الصورة الخاشعة، لا شك أن جمع الصحابة بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الثأر للكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن ذلك كان لافتاً للنظر جداً لكل الناس، ولا شك أنه كان يترك انطباعاً إيجابياً عند عموم البشر، بغض النظر عن جنسياتهم أو أعرافهم أو قبائلهم.