للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم دخول البيت الحرام مع أصحابه]

في شهر شوال من السنة السادسة من الهجرة، يعني: بعد مرور سنة من غزوة الأحزاب، رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا: رأى أنه يدخل البيت الحرام هو وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين معتمرين، ورؤيا الأنبياء حق، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيأخذ أصحابه ويذهب في رحلة عمرة جماعية إلى مكة المكرمة إلى عقر دار قريش، وهذا أمر صعب جداً، فهم قبل سنة واحدة فقط جاءت الأحزاب في عشرة آلاف مقاتل: (٤٠٠٠) من قريش والقبائل التي تحالفها، و (٦٠٠٠) من غطفان، جاءوا يحاصرون المدينة المنورة بغرض استئصال المؤمنين بكاملهم.

فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد مرور سنة واحدة من غزوة الأحزاب في شجاعة منقطعة النظير يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالتجهز لأداء العمرة، وليس بينه وبين قريش أي نوع من المعاهدات أو الصلح أو الاتفاقيات.

لما ذكر صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم قبل الجميع من الصحابة ذلك دون تردد، بل اشتاقوا إلى الأمر، مع أن السفر إلى مكة المكرمة في ذلك الوقت سواء للعمرة أو غيرها يحمل خطورة شديدة جداً عليهم، والمسلمون قد تحملوا الكثير والكثير قبل ذلك من قريش، وقريش لم ترع أي حق للبيت الحرام ولا للبلد الحرام، فقد انتهكت حرمة البلد الحرام قبل ذلك كثيراً، ومع ذلك لم يتردد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في قبول الأمر النبوي بالذهاب إلى العمرة، وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم الاستفادة قدر المستطاع من قوانين المجتمع المشرك التي يعيش فيها، أي: الأعراف الدولية في ذلك الوقت، أعراف الجزيرة العربية، وأعراف قريش ذاتها تقضي بأن الذي يذهب إلى مكة المكرمة لأداء العمرة آمن مهما كان بينه وبين قريش من خلافات، فهل ستحترم قريش هذه القوانين القديمة أم لا؟! هذا ما سنراه.

فخرج المسلمون سعداء قد شرحت صدورهم لهذه العمرة مع خطورتها، وهذا مهم جداً في بداية أي عمل، لذلك سيدنا موسى عليه السلام كان يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:٢٥]، فالإنسان عندما ينشرح صدره لعمل ما يكون أداؤه فيه أداء متميزاً.

لم يكن هناك أي نوع من الإكراه لصحابة الرسول عليه الصلاة والسلام للذهاب إلى هذا المشوار الصعب، لكن في المقابل من الناحية الأخرى جميع المنافقين تقريباً لم يستطيعوا الخروج إلى هذا المشوار الصعب، وترددوا كثيراً وفكروا كثيراً، وفي النهاية أخذوا القرار الحاسم أنهم لن يخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة؛ لأن هذا المشوار في نظرهم مشوار مهلك، كيف نذهب إلى قريش في عقر دارها وبسلاح المسافر، ليس معنا أسلحة الحروب؟ لذلك لم يخرج مع المسلمين إلا منافق واحد اسمه الجد بن قيس.

كذلك الأعراب حول المدينة المنورة دعوا إلى الخروج، ولكنهم جميعاً أبوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك هذا الصف الذي خرج من المدينة إلى مكة هو صف خالص نقي طاهر، وعددهم (١٤٠٠) مؤمن ليس فيهم إلا منافق واحد ليس له كبير الأثر في أوساط المؤمنين، وكما هو معلوم في الغزوات السابقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خرج بصف مؤمن خالص كان النصر قريباً بإذن الله عز وجل، فسنرى -إن شاء الله- نتائج عظيمة جداً نتيجة خروج هذا الصف النقي من المدينة المنورة، فقد كانوا (١٤٠٠) وفي رواية: (١٥٠٠) صحابي، وأخذ صلى الله عليه وسلم معه في خروجه زوجته أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وكان هذا الخروج في غرة ذي القعدة سنة (٦) هـ بعد سنة من الأحزاب، واتجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة المكرمة، وفي ذي الحليفة التي هي الآن آبار علي وهو المكان الذي يحرم منه القادمون من المدينة إلى مكة، هناك في ذي الحليفة أحرم صلى الله عليه وسلم وقلد الهدي، وكان قد أخذ معه مجموعة ضخمة من الإبل ليذبحها في مكة المكرمة، وهذا من النوافل، فالرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة ولبس لباس العمرة وبدأ بالتلبية؛ كل هذا ليدل على أنه لم يذهب إلى مكة إلا للعمرة فقط، وهو يعلم صلى الله عليه وسلم أن هناك عيوناً كثيرة لقريش على الطريق، وهذه العيون لاشك أنها ستنقل الأخبار إلى مكة المكرمة، وهو لا يريد حرباً مع أهل مكة ولم يذهب إلا للعمرة، وما رآه في الرؤيا هو فقط مجرد العمرة؛ ولذلك لم يخرج صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بسلاح المسافر، وفي طريقه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة إلى مكة المكرمة كان يلبي: لبيك اللهم لبيك إلى آخر الدعاء.